ذُبلت ورودي.. وماتت

خرجتُ من مكتبة بعد لقاء قصير مظلم لأبحث في الحديقة المجاورة لمكان عملي عن أرض يسكنها عشب أخضر.
جلست أتلمس التراب لعلي أشعر بدفء الأمان, أسندت ظهري إلى جذع شجرة شامخة منذ زمن بعيد قد زرُعت, لأن أغصانها ترسم ظلال الرطوبة.
سرحت بذاكرتي إلى زمن صداقتي معه وتساءلت:
ـ لماذا تغير..؟ لماذا أنكر صداقتي وعلاقتي به؟ أنا زميلته في العمل.. وكان يناديني دائماً برفيقة دربه، لقد عرفته منذ سنوات طويلة.
ـ لماذا تسلل برد المكاتب إلى أضلاعه فتجمدت الصداقة التي جمعتنا كقطعة ثلج..؟
لماذا خشبت المناصب قسمات وجهه..؟ ومحت ابتسامته حتى غدا كتمثال غيرت قسوة الزمن ملامحه..!.
كانت ابتسامته بريئة, ونظراته دافئة تشع حناناً وعطفاً, لم يعد صديقي يشبهه أبداً, ولم أعد ألمس بكفيه دفئ عاطفة صادقة.
الآن يصمت القلب، وتغرق النفس في غلالة من الحزن العميق..
أمنياتي كلها تكسرت.. وتحطمت كزجاج أخطأ صانعه النفخ فيه فخرج كان صديقي رجلاً شهماً بكل مافي الرجولة من معان سامية يحب الحياة..
والتسامح.. والصدق, لقد تغير ..كثيراً.. كثيراً.
لكن لا أدري، لماذا سبب لي هذا الحزن والأسى؟ كان حتى وقت قريب صديقاً وفياً.. حنوناً تلوذ به النفس عند الشدائد.
حتى جاءت وقت تسلم فيه منصباً مرموقاً أبعد مكتبه عن الجميع..
كان صديقاً وكان عزيزاً, وكانت لهفة لقائنا تنشر عبر الحب ودفء العاطفة في كل مكان.
أحلام كبيرة رسمتها مخيلتي لمستقبلي معه.
دار الزمن, وأصبح هو المدير, وتغيرت لغة الحوار بيننا, وصار اللسان يخشى الخطأ بإغفال اللقب.
ابتعدت عنه وتركته, وقدمت استقالتي دون أي حوار عابر بيننا لم أعد أحتمل من كان صديقي, وحبيبي أن يتعالى ويتعجرف ويغمض عينيه عن كل من حوله ونسي من يعرفهم..!! إنه ليس الذي أعرفه.. أبداً ..أبداً.
لم أعد أشعر كم مر من الوقت وأنا في الحديقة, افترشت عشبها الأخضر وجلست ساعات, وأنا أستعيد بذاكرتي كل ماجرى معي اليوم, ومنذ شهور, إنه واقع كان قاسياً جداً.
عدت إلى البيت متعبة متألمة, استقبلني وجه (أمي) ببسمة تغلغلت في داخلي كنسمة ربيعية دافئة لتمحو ماخلفه الصديق من هموم وأحزان وبصوت مختنق بالقهر والألم, قلت لها وأنا أسند رأسي المتعب على كتفها:
ـ أمي, إن بي حزناً.. وكآبة.. ووجعاً, لقد أكلت الدهشة عقلي لقد قتل ماتبقى من أمل.
إن هذا السيل الجارف من الحيرة في ما رأيته لن توقفه نظراتك الحالمة.
لن تداوي وجعي, لن تنتشلي, خلجات غربتي, أتدركين أمي عمق ألمي؟
اليوم ذبلت ورودي .. وماتت.
وجاء صوت أمي الذي لاأنسى بذاته أبداً:
تعالي لنقلب الصفحة عن صداقة هذا الرجل الأناني, لقد باع روحه لأشباح الظلام, وأحب ذاته فغدت صحبته موحشة.

رامية الملوحي

المزيد...
آخر الأخبار