أنطون تشيخوف, الكاتب الروسي الشهير, أرسل أول قصة كتبها إلى إحدى المجلات المحلية!..
أخبر أهله وجيرانه وأصحابه متباهياً, وهو يكاد يطير من الفرح الطاغي بهذا الحدث الرائع! وانتظر الجواب أسبوعين.. ثلاثة أسابيع , شهراً.. شهرين.. و..حين هلّ اليوم الذي وصل فيه العدد المنتظر من هذه المجلة، كانت النسخة الأولى بين يدي تشيخوف!.
قلب الصفحات بسرعة .. ورفاقه وأهله وجيرانه من خلفه ينظرون متلهفين !! ولكنْ!!..
ولكنْ.. شحب وجه تشيخوف على غير انتظار!
و.. توقف الجميع أمام زاوية صندوق البريد !!
مرت نظراتهم فوق الكلمات الموجهة إليه..
د ـ السيد أ. تشيخوف
ليس لديك أية ذرة من الموهبة..
الشيطان وحده يعرف ماخطّه قلمك..
لاتفرط ـ عبثاً ـ بالورق والحبر.. والطوابع..
دعنا في سلام.. و.. اهتم بشيء, أي شيء تريده عدا الكتابة!!
و.. تفرق الجميع من حوله هازئين ساخرين..
صفر بعضهم بفمه علامة الدهشة!!
وبقي تشيخوف وحيداً بعد أن تلقى أول صدمة..
وبعد سنوات قليلة عرف الناس أنطون تشيخوف.. واعترفوا به ,, لقد استطاع أن يتربع فوق عرش القصة والكتابة والإبداعية في عالم الأدب!
لم يتوقف أبداً!
لم يلعن حظّه العاثر!..
لم يلق اللوم على الآخرين!..
لم يندب أويتباكى أو يستدرّ الدموع !..
طوى المجلة.. و.. بدأ من جديد..
نهض ثانية على قدميه..
كان أقوى إرادة..
كان أكثر تصميماً .. وأعلى نفساً , وأكثر أملاً..
استرد قوته بفنه..
دفع ثقته وإحساسه المبدع إلى الأمام..
واستمر في الطريق الطويلة الشاقة حتى النهاية
كان يكتب ويمزق .. يكتب ويمزق.. يكتب ويجود كتابته!
وضع قلبه على كل كلمة..
وضع قلبه فوق كل سطر..
لم تثنه انكسارات ولا إحباطات..
لم توقفه عقبات ولا معوقات..
و.. الإبداع لابد أن ينتصر أخيراً..
و..كان تشيخوف حقاً أهلاً للنجاح!..
صحيح أنه كان يقول متشائماً:
ـ إن العالم الأرضي مكان غير صالح للفن, لأن الأديب لايجد فيه ركناً يقطنه(!!)
وكان يصنف بني الإنسان إلى فئتين:
ـ فئة الأدباء وفئة الحساد(!!)
فالأدباء يكتبون والآخرون يموتون كمداً ولو حاولوا أن ينالوا منهم (!!)
ويقصد ( تشيخوف) بالطبع الأدباء المبدعين لا الأدباء الأعياء(!) وما أكثر الذين يلقبون أنفسهم بالمتأدبين أو المؤرخين المتابعين وهم أبعد الناس عن الأدب والثقافة والإبداع!!
لكن ( تشيخوف ) لم يعرف الوهن.. لم يعرف الاستسلام , ولم يصغ إلى الأدعياء والمغرورن (!)
وما أكثر الذين توقفوا منذ الصدمة الأولى، وما أكثر الذين لفهم الضياع والعدم..
والعدم في الكاتب هو أن يعيش وليس له شيء , وإن ادعى أنه قد فعل شيئاً!!
إنه ـ عندئذـ مثل الرحى التي تدور وتدور وتدور على نفسها, فيأكل بعضها بعضاً عندما لاتجد ماتدور عليه!..
إن الإنسان هو أديب مبدع مادام ينتج نصوصاً إبداعية.
أما الذين يكتبون للمناسبات ويزينون أعمالهم فيما قالوا في مناسبة فلان وتكريم علاّن فهؤلاء لم يصنعوا شيئاً!!
الإبداع تواصل .. الإبداع استمرارية, الإبداع عطاء متجدّد..
الإبداع ليس جموداً عند قوالب معينة..
الإبداع هو الحياة التي تضج بكل مافيها من توق,.. حبّ و.. شوق.. ونهوض!
نزار نجار