وسائل الإعلام تروج لهم يدّعون معرفة الغيب ويتلاعبون بمشاعر الناس وعواطفهم… المنجمــون يســتحوذون علــى العقــول
أيام قليلة تفصلنا عن هجوم مكثف يشنه المنجمون عبر الشاشات الفضائية,وهم يستعدون لتحقيق حالة من إقناعنا بتنبؤاتهم وقراءاتهم لمستقبلنا القادم.
العشرات من هؤلاء المنجمين سيبرزون إلينا في ليلة رأس السنة ليخبروننا بما هو آت إلينا في الأيام القادمة …سيتحدثون كعادتهم بمنتهى الثقة بالنفس بأن ما سيقولونه هو حقيقة مؤكدة ستحدث ,والفضائيات ستبدأ قريبا بالدعاية للمنجمين الذين ستستضيفهم ,والغاية هي الربح والحصول على أكبر نسبة من المشاهدين وإقناعنا بمصداقية المنجمين المتعاقدين معهم عبر صفقات متبادلة تدر الربح الوفير على طرفي المعادلة, المنجم والفضائية عبر أساليب الاستخفاف بعقول المشاهدين أو المستمعين الذين يفضلون التنجيم على التعليم والخيال على الحقيقة والواقع.
الهروب من الواقع
الحقيقة :إن الواقع الصعب والظروف السيئة التي تحيط بنا تجعلنا نبحث عن شيء من الأمل أو الحلم بأن المستقبل سيكون أفضل ,فالغلاء والحرب والكذب والغش والخداع كفيلة بأن تحول تفكيرنا إلى البحث عن مساحات من النور تأتينا عبر ثقوب ضيقة في جدار المعاناة والألم ,حتى ولو كانت هذه المساحات أو الأمل مزيفة ومبنية على الكذب والخزعبلات والتهويمات وتجعل الكثيرين يسيرون خلف هؤلاء المدعين والمحتالين كالقطيع ,والأهم والأخطر من كل ذلك أن من يروج لهذه الحالة الأجهزة الإعلامية الحديثة من فضائيات وإذاعات ومنصات التواصل الاجتماعي.
التنجيم لم يكن في يوم من الأيام علماً ,ولن يكون أبداً,ويختلف عن الفلك الذي يبنى على أسس علمية وحركة الكواكب ودوران الأرض والنجوم والقمر ,وقد شاهدنا الكثير من الحقائق عن خسوف القمر أو كسوف الشمس الكلي أو الجزئي في مكان ما على سطح هذه البسيطة أو سقوط الأمطار والأعاصير وغيرها التي يتم مراقبتها عبر التليسكوبات أو الأقمار الصناعية والتي تتحقق بنسب عالية إذا لم تحدث أمور مناخية أو فلكية أو حركة رياح لم تكن بالحسبان.
بينما يعتمد المنجم على التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم ويبني على الادعاء بمعرفة الغيب وقراءة الكف والطالع أو بالاعتماد على الأصوات, وغيره من الأكاذيب وهدفه كسب الشهرة والدخول إلى الجيوب للحصول على المطلوب ,فهذا يدعي بأن الدولار سيهبط ويتقهقر,وآخر يتحدث عن زلزال أو فيضان أو موت زعيم أو شخصية مهمة وأن أصحاب البرج الفلاني سيتعرضون إلى وعكة صحية أو ..أو.. وغير ذلك الكثير من الدجل والكذب والضحك على اللحى ,والمضحك أن بعضهم يكذب ويصدق ما يقول ,فإذا وقع أحد الأحداث مصادفة كما توقع المنجم فإنه ينتفخ ويتورم وتنتفخ معه الوسيلة الإعلامية التي كان لها شرف بث اللقاء معه أو نشر توقعاته ,ما يدفعه إلى البحث مجدداً عن أكاذيب جديدة تزيد من شهرته ونجوميته.ولكل منجم أو منجمة شكل أو طقوس أو كاريزما معينة يظهر بها أمام جمهوره…
أحد أساتذة علم الاجتماع والنفس يرى أن معظم الناس يعيشون في حالة اكتئاب حقيقية ما يجعله عرضة لموجات وسموم المشعوذين والدجالين فهم إما يهربون من واقعهم إلى الصفحات المشرقة في ماضيهم أو يسافرون بخيالهم إلى المستقبل الذي ينشدونه ,وهنا تبرز مخاطر التنجيم الذي تحول من تسلية وربح إلى التلاعب بعقل الإنسان وتشويه إدراكه.
عبث بعقول الساذجين
تقول الباحثة الاجتماعية رندة عبيد: عمت الفوضى عالمنا وزاد اضطرابنا حتى أصبحنا غير مرتاحين لأي شيء سوى عالم الوهم المأسورين فيه..تعب ناجم عن الوضع الراهن ومن مجتزءاته فراغ ثقافي وصخب يعج بالضياع فتبدو سماته بالترويج لثقافات شائبة لا أساس لها بالعمل بل هي قمة الاستئثار بالفراغ والاتكالية والوقوع ببحور الأمل بلاعمل فتتوسم بالتعلق بالنجوم والطالع والأبراج والحظ وجميعها قديمة قدم الإنسان لدرجة أن بعض المؤرخين ينسبونها إلى عصر الجاهلية ويقرون معاداة الإسلام لها إذ جاء ببطلانها وبيان أنها من الشرك لما فيها من التعلق بغير الله تعالى واعتقاد الضرر والنفع في غيره ,وتصديق العرافين والكهنة الذين يدعون علم الغيب زوراً وبهتانا, ويعبثون بعقول السذج والأغرار من الناس ليبتزوا أموالهم ويغيروا عقائدهم, وفي اعتقادي أن المسير الأوحد لهكذا توجه باللهاث نحو قراءة الأبراج والتنجيم المستقبلي هو الخوف وحسب ,وللخوف أشكال عدة تكمن في داخلنا حتى تكاد تتملكنا أكثر من الواقع , وجهودنا تتواصل طوال حياتنا لنتخلص من هذا القلق,وكل الجهود لم تكن إلا لتفادي اللا أمن هذا فنستغيث بقارئي المستقبل ليبعثوا فينا الطمأنينة والسكينة,لكن سرعان ما نكتشف نحن حشود الخائفين أن اللا أمن باق على حاله فينا سواء أنشدوا لنا أناشيد الحب والتفاؤل أو أناشيد الهموم والتشاؤم ونتبين أن ما كانوا يقولونه ليس إلا أكاذيب ودجل.
النساء أكثر ميلاً
النساء أكثر ميلاً من الرجال إلى تصديق هؤلاء المنجمين لميلهن نحو الرومانسية والأحلام الوردية أكثر ,فهذه تنتظر فقرة الأبراج بفارغ الصبر لكي تحدد كيف تعيش يومها وماذا ينتظرها لتبرمج تصرفاتها وفق ما تسمع وأخرى تتصل وتسأل عن مستقبلها أو مستقبل شريكها أو ابنها وبمقدار إصرارها ولهفتها لسماع ما يقول المنجم يبدو واثقاً جداً ..أمامك سفر …احذري من كذا ..في الشهر كذا تنتظرين مفاجأة جميلة والكثير من الجمل والعبارات الفضفاضة التي تحتمل الكثير من التأويل والاحتمالات التي تجعل المنجم في مأمن من انكشاف زيفه ودجله وغير ذلك من الأكاذيب التي لا ينجرف وراءها ذي عقل حتى ولو قال إنه يتابع من أجل التسلية فقط.
كذب المنجمون
يروى أن ستالين أثناء الحرب العالمية الثانية دخل عليه ضابط برتبة عالية يخبره أن عرافاً أومنجماً ينتظر في الخارج يريد مقابلته ليعطيه تنبؤات مهمة جداً عما سيحصل على الأرض في المعارك القادمة لابد له من معرفتها ,فطلب ستالين من الضابط قتل المنجم على الفور , ثم دخل الضابط على ستالين وسأله عن الحكمة من قتله بدل الاستفادة منه ,فأجابه ستالين: لو أنه كان يعلم الغيب لما أتى إلينا ليموت.
فالعقل هو ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية و به نميز بين الكذب والصدق وبين الخيال والحقيقة ,ولا مانع من الاستمتاع والتسلية بمشاهدة أو الاستماع لأولئك المنجمين ولكن علينا ألا نبني تحركاتنا وأفعالنا وأقوالنا على ما يقولونه من أكاذيب تؤثر على إرادتنا وقراراتنا .
لأن من يستخدم عقله بشكل سليم قادر على صناعة مستقبله كما يريد وليس كما يشاء الدجالون , فالعقل حصانة ضد السموم التي ينفثها أولئك المنجمون.
فيصل المحمد