اللغــة اﻷم.. وأم اللغـــات

تحتفل المؤسسات التربوية والإعلامية والثقافية العربية والعالمية باليوم العالمي للغة العربية. وبهذه المناسبة سأحاول مقاربة مفهوم اللغة الأم وإلقاء بعض الضوء عليه في حدود المساحة المتاحة للمقالة عادة.
اللغة المنطوقة هي الأصل، وبواسطتها يكتسب الطفل لغة مجتمعه وأمته. وقد اتفق على تسمية اللغة التي يتلقاها الطفل عبر التقليد والمحاكاة في طفولته المبكرة بـ ( اللغة الأم )، أقول اللغة الأم ولا أقول لغة الأم : اللغة الأم هي اللغة التي يتكلمها المجتمع من حول الطفل، وهي لغة الثقافة والعلم والتعليم والإعلام والتبادل التجاري …. إلخ ، والتي تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل. أما عبارة لغة الأم فملتبسة وغير دقيقة، لأن الأم البيولوجية للطفل قد تكون محدودة القدرات اللغوية، وقد تكون أجنبية لا تحسن التكلم بلغة المجتمع والبيئة التي ولد فيها الطفل، لذلك، ودفعاً للالتباس فإن بعض الباحثين يطلقون على اللغة التي يتلقاها الطفل في طفولته المبكرة اسم ( اللغة الأولى ). ويوضح باحثون آخرون القضية بقولهم : سميت اللغة الأولى التي يتعرض لها الطفل اللغة الأم لأن الطفل يقلد، أكثر ما يقلد، الأم وحركات شفتيها والأصوات الصادرة عنها. وتتكلم الأم في الأغلب الأعم لغة المجتمع، وحالة الأمهات اللائي لا يتكلمن تلك اللغة تشكل استثناءً، كما هي حالة الأسر المغتربة، وحالة الزوجات الأجنبيات. ويضيف هؤلاء الباحثون : إنها اللغة الأم، أيضاً، أي اللغة الأساس، لأن اللغات الأخرى التي يتعلمها الفرد تأتي غالباً في مراحل تالية، ولا يمكن للطفل أن يتعلم أكثر من لغة واحدة ابتداءً ودفعة واحدة. وبناءً على الفكرة السابقة يمكننا القول : إن اللغة الأم هي أم اللغات بالنسبة للفرد الإنساني، لأن الفعاليات اللغوية التالية تنبني عليها، بما في ذلك تعلم اللغات الأخرى، فاللغة العربية هي اللغة الأم للفرد العربي الذي عاش طفولته المبكرة في المجتمع العربي وهي أم اللغات بالنسبة له، واللغة التركية هي اللغة الأم للفرد التركي وهي أم اللغات بالنسبة له، واللغة الفرنسية هي اللغة الأم للفرد الفرنسي وهي أم اللغات بالنسبة له … وهكذا. وقد لوحظ أن التمكن من اللغة الأم يساعد في التمكن من اللغات الأخرى، الأمر الذي دفع بعضهم إلى الزعم بوجود ملكة لغوية في الدماغ البشري تسمح بنقل الخبرة اللغوية من مجال لغوي إلى آخر. ويتعلم الطفل مع اللغة، وبواسطتها، قيم مجتمعه، وأخلاقَه، ومعارفَه، وخبراتِه، وأهدافه، وقضاياه، وطرائق إدراك تلك القضايا والموقف منها …. فاللغة ليست أداة اتصال محايدة كما كان ينظر إليها القدماء، وليست مجرد ألفاظ وأصوات تصدر عن المتكلم في حالات معينة، كما قال ( ابن جني ) في كتاب الخصائص : ( حدّ اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم … )، وكما قال ( الأسنوي ) في شرح منهاج الأصول : ( اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني). اللغة، حسب التصور الحديث، حامل لفكر الأمة التي تتكلمها، ولتراثها، ولقيمها …..، حتى لقد قال بعضهم : إن اللغات تخلق نوعاً من الحدود قد تكون أكثر حزماً في تمييز الأمم من الحدود الجغرافية. فاللغة تملك سلطة روحية ووجدانية خارقة، ولاسيما في المجتمعات والأمم التي تطرب وتنتشي من سحر البيان وجماله.
وبعبارات أخرى أقول : إن الانتماء إلى مجال لغوي معين يعني الانتماء إلى ثقافة محددة، والانتماء إلى الأمة أو المجتمع الذي يتكلم اللغة السائدة، مما يحدد الموقف من الذات ومن الآخر. وقد جاء في الأثر الشريف ما معناه : ليست العربية لأحدكم بأب ولا أم، إنما العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي … واللغة ، بهذا المعنى، تكفي لخلق الانتماء الذي تلتقي عنده القناعات والرموز والتمثلات والعقائد والمواقف وردود الأفعال …. التي تشكل في مجملها هوية الأمة. وهي، أعني اللغة، تعبر أصدق تعبير عن هذه الهوية. وحين أقول إن اللغة انتماء فهذا يعني أنها وعاء لثقافة الأمة وقيمها، ومكون أساس من مكوناتها، بل إن بعض النظريات المتعلقة بنشوء الأمم قد جعلت اللغة مكوناً كافياً وحده لنشوء الأمة وقيامها. واللغة العربية بالذات هي وعاء للثقافة العربية الإسلامية، وحاملة للتراث العربي … وهي، من ثم ، من أهم الحصون التي تحفظ الهوية القومية العربية …ولأنها كذلك فإنها تتعرض إلى ضغوط هائلة من قبل أعداء الأمة لتفجير هذا الحصن من الداخل، ولأنها كذلك أيضاً نجد أن الجماهير العربية تعيش الوحدة عملياً رغم التجزئة المفروضة عليها، ورغم سايكس بيكو الذي جعلها تحت رحمة سلطات متباينة ومتنابذة، ومن هنا يمكن أن نفهم أسباب الضغوط واﻹكراهات التي تتعرض لها اللغة العربية من أعداء العروبة، وﻻسيما من قبل القيمين على وسائل اﻹعلام، فباتت تلك الوسائل ﻻ تجد حرجاً في استخدام اللهجات المحكية مما يسبب سوء التواصل بين المواطنين العرب، وإنشاء معازل لغوية قد تتعمق كما حدث للغات كثيرة من قبل.
ولن تجدي حملات ما يسمى (تمكين اللغة العربية) في شيء ما لم تتغير سياسة وسائل الإعلام العربية، ولنبدأ بأنفسنا وبإعلامنا … أنا لا أدعو إلى إعلام متجهم، إنما إلى إعلام يحترم عقول ووجدانات المتعاملين معه.

محمد راتب الحلاق

المزيد...
آخر الأخبار