قلما تقرأ نصاً شعرياً أو روائياً أو قصصياً أو مسرحياً ,يشعرك بمتعة وسمو الكاتب ,في زمن كثر الدخلاء في منافسة الأدباء المبدعين , ولأن الإبداع سمة المبدع الذي يقدم رؤيا وتجديداً في نصه الأدبي ,وتتأتى فإن مهمة الأديب إعادة صياغة الواقع بكل ما يحمله من بؤس ومرارة وما تعصف به النفوس من أوجاع وأحلام , وما تثيره من الأسئلة الملتبسة بهذا الفضاء الملوث برائحة العنف والقسوة والخديعة .
كومبارس …يعترف بعجزه
هي مجموعة قصصية للكاتبة المبدعة د هيفاء بيطار التي ذهبت بعيداً في عالم الرواية ,فقدمت عدة روايات منها امرأة من طابقين ورواية قبو العباسيين وروايات أخرى وعدد من المجموعات القصصية ,منها مجموعة كومبارس التي حملت بعض العناوين منها : ليلة الدخلة والمصباح الكهربائي وبين الألف والياء وانخطاف وكومبارس وفخ الحب والقاتلة وبلا عنوان وقطاعة الورق ….و…لقد قدمت مواضيع مختلفة لنماذج إنسانية ربما هي قريبة منا كثيراً ,أو سمعنا عنها ولكنها تسرد علينا بوحها بطريقة عفوية وتسبر أعماق هذه الشخصيات المكتنزة بالوجع والأمل ,حاولت بما تحمله من سمو بلغة مدهشة وتراكيب جميلة, لتصبح أنت القارىء شريكاً بعملها الأدبي وكأنها تحملك وزر البؤس الإنساني .
ليلة الدخلة والمصباح الكهربائي تفضح سر دكتور في ليلة دخلته على عروسه ,دكتور ذو سوية علمية (راقية) عالية ولكنه للأسف الشديد مسكون بعقلية متخلفة ماتت مع تقادم الزمن , الحبيبة العروس تتهيأ بفرح الفتاة الشرقية لتعيش أول تجربة حب انتظرتها منذ زمن بعيد بعد فترة حب وخطوبة عاشتها بكل فرح وحب,ولكنها تفاجأ بالزوج والحبيب وقد أحضر المصباح الكهربائي ليتأكد من عذريتها ,وهي لم تعش قصة حب وخطوبة إلا معه ,تلك العقلية التي تحمل بذور الشك (الأسود) بكل ما حوله ,رجل مغلف بشهادة علمية ويتصرف مثل أي إنسان لا يثق بنفسه ولا بمن حوله ,هيفاء بيطار فضحت زيف هؤلاء بما يحملونه من إرث الماضي المتخلف, شخصية مضطربة في أعماقها ,تندفع لتكشف وجها قبيحاً متخلفاً… طبعاً هي تدافع عن عزتها وكبريائها برفضها هذا الامتحان الرخيص .
كومبارس تقدم شخصية مسكونة بالحب والعطاء (ممثل كومبارس ) بحاجة لعمل جراحي لا يؤجل ولكنه مضطر أن يؤجله لأنه يتابع تصوير بعض المشاهد المتبقية من عمل درامي ,كومبارس شاب بسيط ذو ملامح بائسة ومعه زوجته التي تحمل رضيعها ,نعم تزوج هذه الفتاة التي غدر بها عشيقها ,يتزوجها بعد أن يدون أسم الطفل باسمه ,يقاطعه الأهل والأصدقاء ورغم هذا لا يتخلى عنها ,ولا عن صغيرها , يؤجل العملية رغم الخطورة على حياته ,وليقبض أجره البائس ,في غرفة العمليات يتحول لجثة هامدة ,تحاول الدكتورة إسعافه ,أجهزة الإسعاف المعطلة تساهم بقتله ,تحاول …وتحاول أن تنقذه وبطرق طبيعية وهي تدلك القلب الذي يرفض الاستجابة ,ليقول لها زميلها الدكتور بكل بساطة كل يوم يموت كذا واحد ,فلم أنت منزعجة لهذا الأمر ,ماذا تقول له …؟ هل هذا المريض (الكومبارس) البائس المظهر الثري بقيمه الإنسانية النبيلة في زمن تنعدم هذه القيم ,هل تفصح له كم تتمنى أن تقاربه بثرائه الروحي والأخلاقي ,خرجت والسخط والغضب مرتسمان على وجهها .
هيفاء بيطار …تنبش في زوايا الروح
تمتلك الكاتبة هيفاء بيطار مقدرة مذهلة في الكشف عن خفايا الروح المستترة , تغوص في أعماق شخصياتها لتقدم نماذج متفردة بحضورها الإنساني (السلبي والإيجابي) مفردات لغوية متفردة بها , بعد رحلة طويلة بين الرواية والقصة ,رسخت أدواتها الفنية في السرد والحوار والحبكة , وفي اصطياد شخصيات مهمشة بالحياة ,تقذف بتلك الشخصيات في فضاء شاسع , لتبوح كل شخصية بحلمها وانكسارها , بقوتها وضعفها ,تعري الروح قبل الجسد , هي دكتورة عيون , لهذا تبصر في داخل ذواتنا ,وكأنها تستخدم مجهرها الطبي بالكشف عن أمراضنا وأوجاعنا ,منحازة للإنسان أولاً وعاشراً بعيداً عن موقعه الاجتماعي والسياسي والمذهبي , تُعلم وتتعلم من شخصياتها ,ما تقدمه ليست صفحات محملة بكلمات ,ما تصوغه جزء من حياة الإنسان المعاصر الذي يئن تحت أثقال تنوء بحملها الجبال.
محمد أحمد خوجة