الشعور بعدم الكفاية الفكرية أهم من البحث عن المزيد، لا بد من أننا سنقول شيئاً أهم بعد حين، أو سننتصر على الجهل بفكرة أو رؤية حديثة قد تكون «بديهية» لدى البعض الذين تجاوزوها، أو على الأقل يتظاهرون بذلك، ومن الطبيعي أن يتجاوز بعضنا البعض الآخر، بحكم العامل العمري أو التجريبي، هذا هو تقريباً صراع «البسطاء» مع «المثقفين» الذين (ما شاء الله) اختتموا المعرفة البشرية وتجاوزوها بأزمنة وأكوان وأصبحوا من الفضاء يطلون بزيارات على الأرض كل فترة، وكل من دونهم لا يحق لهم الكلام، المثقف الذي ينظر إلى نفسه على أنه كائن فضائي هو فعلاً كذلك، كائن فضائي يعاني حالة عصابية، ذو «هيبة صناعية»، تعمل بالطاقة النفسية التي تتلقاها من خضوع الآخرين لأفكاره، ودهشتهم التي تلاحقه أينما حل، إنه يدافع دائماً عن ما هو عليه سواء طوعاً أو محكوماً به، ومدرب بعناية على حمل سلاح الحجة في وجه الآخر بثقة بشعة مقيتة، ليست هناك أية طريقة لهدم أناه العالية إلا تهميشه وإهماله، لكن أن يحيط به مجموعة من البسطاء الذين لا يقولون إلا «بديهيات» و «سخافات» في اعتباره الخاص، فهذا يزيد قدرته على الإمساك بزمام السلطة وإغراق الآخر بالضعف والخضوع والفوضى، لم يخطئ من قرأ النفس على أنها تحمل نزوعاً فطرياً إلى الفوقية، وإننا جائعون إلى الظهور على أننا الأعلم والأكثر ثقافةً وقوةً بأقل الإمكانات المتاحة، لذا يلجأ الكثيرون إلى سياسة النسف الاعتباطي والتسخيف وهدم آراء الآخر وذائقته، في سبيل النهوض على أنقاضه، هكذا تظهر «الكائنات الفضائية»، التي تعاني «وهم الثقافة»، وتحتل الواجهة، والغريب هو أن أكثر الناس تأثيراً على الآخرين هم الأكثر هدماً للآخر، أي الذين يعانون هذا النوع من الوهم، في حين أن الأكثر تأثيراً يفترض أن يكون الأكثر مرونةً وتفاعلاً، وهذا أمر لا تعالجه الثقافة، لأنها تصنع كل شيء عدا أخلاقيات الثقافة التي تولد مع المرء قبل أن يتعلم الكلام، يستطيع القليل من الناس أن يصنعوا مثقفاً فضائياً بالقليل من التسليم له، ويستطيع القليل منهم أن يعيدوه إلى الأرض كإنسان يخطئ ويصيب ويتبنى آراء قابلة للدحض والنقاش، باتباع سياسته ذاتها، التهميش والتسخيف..
شكرا للمثقفين الحقيقيين الذين يستحقون منا كل احترام، بأخلاقهم العالية وتواضعهم ومرونتهم وأفكارهم التي تستحق الوقوف، والذين يعرفون أنهم كذلك!!.
يزن عيسى