هل ثمة فجوة أو جفوة بين الشعر والجمهور؟ وما سبب هذه الفجوة إن وجدت؟
من جهتي فإنني أعزو سبب هذه الجفوة (الفجوة) إلى واحد أو أكثر من الأسباب الآتية :
سوء ما ينشر في وسائل الاتصال، ورداءة النصوص المقررة في المناهج التعليمية، واستسهال هذا الفن النبيل والتطاول عليه بعد أن استوطأ المدعون وغير الموهوبين حائطه، ورواج نماذج هابطة فنياً مما يسمى بقصيدة النثر، ولاسيما ما نراه منداحاً في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي سوق النشر النهمة إلى كل ما هو رديء ورخيص.
وسبب هذا الاستسهال يعود إلى أن نتاج مثل هذا النمط من ( الشعر ) حسب ظن بعضهم، وأعني ما يسمى بقصيدة النثر، لا يتطلب تمكناً من القديم لتجاوزه، ولا إتقاناً للأوزان وعلم العروض، ولا تمكناً من اللغة، المادة الخام التي تصنع بها وفيها النصوص الشعرية …. كل ما يتطلبه الأمر جرأة صاحب النص على إطلاق اسم الشعر على ما يكتبه، وصف الكلام بطريقة توحي بأن ما يقرؤه القارئ شعراً، إن كان النص مكتوباً، أو مط بعض الأحرف ونبر بعضها الآخر بطريقة توحي هي الأخرى بأن ما يسمعه السامع شعراً؟!، في عملية تدليس وتزييف مدبرة، ليأخذ الكلام شكل الشعر وما هو بشعر يقيناً، رغم محاولات التمويه الفني والتسويق الإعلاني والإعلامي، وما يقدم من خدمات من قبل الشلل المختلفة.
أما إذا وجد بعضهم في كلامي شيئاً من التجني، بدلالة وجود نصوص مدهشة مما يسمى بقصيدة النثر، فيها من نداوة الشعر وعذوبته ما يجعل المتلقي يطرب لها أكثر من بعض النصوص الشعرية التقليدية (الموزونة) الخاوية من الشعر، وليس فيها إلا رسمه وجثته وصورته الخارجية وشكله البراني … فإنني وإن كنت أوافق على ذلك أتساءل عن مدى شرعية المقارنة بين الجيد مما يسمى بقصيدة النثر والرديء من الشعر العمودي أو الشعر الحر (شعر التفعيلة)، أو الجيد من الشعر العمودي والشعر الحر والرديء من الأنماط الأخرى …. المقارنة الصادقة والحقيقية والنزيهة إنما تكون بين النماذج العليا من كل نمط … وأزعم بأن ما يسمى بقصيدة النثر لن تقوى عندئذ على دخول مضمار المقارنة والمضاهاة، لأنها ستظل مفتقرة إلى أحد الأقانيم الأساسية في الشعر العربي ( الوزن )، حتى وإن تساوت مع الأنماط الأخرى، من حيث الجودة، في سائر الأقانيم الأخرى. وأرجو أن يلاحظ القارئ أنني لا أصادر حق أي نمط من أنماط القول الشعري في الوجود والانتشار، شرط أن يمتلك روح الشعر وأساليبه واستراتيجياته في التعبير.
وأختم بما ختم به المرحوم ( جمال الغيطاني ) إحدى مقالاته وأقول معه : « ما يشجعني على إبداء آرائي بهذا الوضوح أنني لست بشاعر، وإنما أنا متذوق فقط، والمهم أنني لا أخشى غضبة الشعراء، ولا ميليشيات ما يسمى بقصيدة النثر (حسب تعبير محمود درويش)، فلم يعد أمامنا إلا أن نقول الحقيقة بعد أن آل الشعر إلى ما آل إليه» على يد شعراء الفيسبوك من حاملي المرحات والشهادات الفخرية ذات الألوان البراقة.
لست ضد قصيدة النثر عندما يكتبها الشعراء الموهوبون، بل إن كتابة قصيدة النثر الجيدة يتطلب مواهب موارة وعميقة أكثر من سواها، ومن حق هذا النمط من القول الشعري أن ينافس الأنماط الأخرى وأن يزاحمها وأن يضاهيها، وربما فاز في بعض الجولات، وإنما أنا ضد هذا الهراء الذي يكتبه البغاث والأفدام ممن لا علاقة لهم بالشعر أو باللغة السليمة. وأرجو أن لا أكون قد فتحت على نفسي أبواباً من الجحيم.