فتحت نافذة غرفتها المطلة على سهول القرية الجميلة ترقب الطريق.. علّه قادم من هذا الطريق . أو من ذلك الدرب المؤدي إلى الوادي.. لقد تأخر ، إنه بعيد.. بعيد.
وجاء الغروب خجلاً يحمل إليها ليلاً موحشاً لف القرية بوشاحه الأسود اختنق صوتها بعبارات وشكوك لاتدري كيف تفسرها أغلقت النافذة وهي تطمئن نفسها قائلة :
ـ لن يأتي اليوم ,لعله في الغد ..!
وازدحمت الغرفة بصخب الأسئلة, وبصدى الإجابات الضائعة .. أسئلة كثيرة تتداخل فلا تعرف لها أجوبة.
جلست مع ذكرياتها تستعيدها صورة .. صورة وحدثاً إثر حدث .. وصوته بنبراته الصادقة يتردد على مسامعها..
حانت منها التفاتة إلى زاوية الغرفة , فوق طاولة خشبية صغيرة توجد بقايا زهرات بنفسج في مزهرية فخارية كان قد أهداها إليها.
أمسكت بها وعانقتها بشغف وهي تبتسم:
ـ أشياؤك الحميمة معي.. رسائلك.. قصائدك .. كلماتك المعلقة كأجراس همساتك في الستائر .. أريجك في حبق النافذة.
كل ماتركته يذكرني بك..
إلا أنت وحدك لاتجيء ..وحدك المسافر الأبدي وأنا كعادتي وحيدة أجالس طيفاً يعدو بين الباب ومقلتي..
حتى تعود لتتجسد في وحشة المكان مصباحاً ينبض بالشوق..! ومرت الأيام متثاقلة عليها وهي تستعيد ذكرياتها بحلوها ومرها.. لقد تحسست بيدها خاتم الخطبة وبعض القطع الذهبية التي قدمها لها, وعلى شفتيها ألف حزن وألف دفقة حنين وألف نظرة خائفة .. تأوهت بعمق.
إن بعدك هذا جعلني أعيش دوامة مخاوف كثيرة أبعدت الأمل الذي أنتظره لكنك مازلت تسكن قلبي.. وما زلت تلعب بوريدي, وتنساب كالمطر في روحي.
تلك الإشاعات التي أسمعها تكاد تطفئ الأشواق في صدري.. رباه صرت حديث صبايا القرية والأهل والأقارب.. إذا تحققت تلك الشائعة بأنه تركني.. ماهو مصيري وكيف أستمر..!
ـ كنا أقرب من جفن إلى عين, إنك ببعدك عذبتني.. قذفتني إلى خارج عالمك وجعلت الحب الذي بيننا مجرد كلمات.. إنني أخشى من تحقيق الإشاعة بأنك لن تعود.. أخشى على مصيري بين أيدي الناس . ترى..؟
هل بإمكاني الارتباط بغيرك, والعيش مع إنسان لا أعرفه.. كيف بإمكاني أن أنساك وكل شيء أمامي يذكرني ويزلزل خافقي..!!
هناك ثمة سطور كتبتها لي قبل سفرك بعثرت بقايا البقايا من الوجد في أعماقي وعقلي .. اقرؤها دائماً لأنها اعتراف منك بحبك وإخلاصك.
لكن ماذا جرى؟ لا أدري
هذا الصباح فوجئت بكلام كثير وبأقاويل تلوكها ألسنة نساء القرية..
بأنك لن تعود.. وإنك غررت بي .. . و . .. فهل أصدق ذلك ..؟!!
هل أقف على الرصيف أنتظر عودتك أم أكتفي باستنشاق رائحة الدموع التي غاصت في أعماق وسادتي . أم أقعد حبيسة اللهفة مقيدة إلى عمود من العذاب..!!
سأجعل من كل ماجرى معي .. ومن هذا اللغز العصي أملاً يضيء أفكاري سأتمرد على الإشاعات والأفكار وأشرب سم رحيلك المفجع وأرمي بصبر.. أحزاني كلها.
نظرت للأفق .. تكاد الدموع تغرقه, وقالت:
ـ إن قلبي يخبرني بأنه سيعود . وسوف يعيد النظر بعلاقتنا, سوف يعود لي لأنني أعرفه أكثر من كل الناس. إنه ليس انهزامياً .. ولا متردداً .. ولا متخاذلاً, إنه رجل يفيض كبرياء وشهامة وصدقاً.
وجاء غروب هذا المساء .. غروب ربيعي جميل.. والفرح يرسم على وجوه الأطفال البراءة والأمل المشرق, بقدوم العيد.
لقد لعبوا.. وركضوا, على السهول مودعين يوماً جميلاً والأمهات عائدات إلى منازلهن من الحقول , حاملات بجعبهن البهجة والفرح بمواسم تبشر بالخير.
كل شيء في القرية يودع يوماً حافلاً بالنشاط حتى العصافير جاءت بغذاء فراخها.
استقرت القرية هادئة سعيدة,وقفت تنظر إلى صمت تبعثر أمام محنة صراخها واحتراقها.
آه من لحظة سقوط الصور فوق سعادتها, إنها لاتعرف كيف يجتمع الحب والخوف في قلب صادق.
اقتربت من نافذتها ترقب حباً أضاء أفكارها السوداء.. وبين الصمت والشك .. والهاجس..لاح طيفه من بعيد.. انتصبت واقفة.
إنه هو ارتبكت ماذا ستفعل؟ تريده أن يراها بأحلى صورها.. نظرت للمرآة لكنها صدمت بما رأت.
لقد ذوت كفرع شجرة مر فوقه عشرون عاصفة, عشرون ثلجاً, وما عاد يملك القدرة على احتمال هديل البراعم الغافية من ربيع إلى ربيع.
أمعنت النظر جيداً بالمرآة.. الوجه .. والشعر.. واللباس.. قالت لنفسها
ـ أهكذا سألقاه؟ .. أهكذا سيراني, بعد كل هذا الغياب..؟
عرفت ماتريد.
وبحس المرأة وقدرتها وقوتها تغير كل شيء في لحظات..
مرّ الوقت سريعاً.. وطويلاً, سريعاً على استعدادها طويلاً على وصوله سمعت خطواته تقترب, ونبضات قلبها ترتفع, وما إن سمعت أصابعه تنقر على بابها حتى فتحت الباب.
والتقت عيناهما, وتوقف الزمن للحظات تعادل العمر كله.
نسيت كل آلامها.. وأحزانها.. وهواجسها وانطلقت من عينيهما دمعة.
وأفاقها من ذهولها باقة بنفسج انتصبت أمامها قدمها بصمت دون أن ينبس بكلمة, وبلهفة حبها وشوقها الساكن بأعماقها ضمت البنفسج ويده بكلتا يديها وازداد انهمار دموعها شعرت وهي تحتضن يده أنها ملكت الدنيا, قال لها: ـ لقد عدت ..ولن أغيب أبداً.
رامية الملوحي