بين المعري وطه حسين

علاقة طه حسين مع المعري هي علاقة أرواح تلاقت وتشابهت رغم اختلاف الزمان وبعده فيما بينهما .. فقد كان كلاهما ضحية علة واحدة، فأبو العلاء المعري أصيب بالجدري وهو في الرابعة من عمره ففقد بصره , كما أُصيب طه حسين بالرمَد في عينيه وهو في الخامسة من عمره تقريبا ففقد بصره أيضا , وليس فقد البصر هو ما يجمعهما فقط، أو وجود البصيرة لكليهما معا ما يميزهما أيضاً، لقد كانت الحياة الأدبية لكل منهما صاخبة وبين مؤيد ومعارض . والحديث عن أبي العلاء المعري وطه حسين طويل ومتشابك نظرا للموضوعات الكثيرة التي تطرَّق إليها كل واحد منهما وعلى الرغم من اختلاف البيئة والزمان .
وسؤال يطرح نفسه يا ترى ما الذي شدَّ طه حسين إلى أبي العلاء المعري، فجعل منه قدوة له ومثالاً، لا بل والفَّ عنه كتاباً شهيرا، وشاعت أفكار وروح المعري في كامل منهج عميد الأدب العربي؟ فهل ثمة من أغوى طه حسين للسير على طريق ابي العلاء ؟
كان المعري المثل الأعلى لطه حسين, واعترافًا منه بعظمة أدب وعمق تفكير أبي العلاء فقد كان يحبه حبا صادقاً أثيراً ويقرّ ويعترف أن أبا العلاء المعري قد ملأ نفسه ضيقا بالحياة وبغضا لها، وهو في هذا يشعر بتشاؤم كأبي العلاء، وهذا التشاؤم لم يكن ليفارقه لحظة من لحظات اليقظة، إلاّ حين يشـغل عـنه بالاستماع إلى الـدرس أو إلى القراءة.
لقد استوعب طه حسين شخصية المعري وبيئته، وحياته، وأدبه، وتشاؤمه كما قرأنا في رسالته الأكاديمية (ذكرى أبي العلاء)، وهي رسالته الأولى للدكتوراه عام 1914.
كما عرض شعر المعري في اللزوميات، وسَقْط الزند، والدرعيات وكتاباته الفكرية معتبرا أبا العلاء أحب شـخصية أدبية فكرية إليه.
وفي هذا يقول:
ولم يذكر الفتى كم مرة قرأ شعر أبي العلاء ونثره مع صديقه ذاك. ولكنه عرف أنه قرأه مرات كثيرة، وتأثر به أعمق الأثر، وآمن به أشد الإيمان. واستيقن أن حياة أبي العلاء تلك هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ويظهر من دراسة طه حسين لأبي العلاء المعري أنه كان في سجنه خمسين عاماً، وكانت تراود طه حسين أوقات يشعر فيها بالتشاؤم كالمعري في الأدب والفلسفة، وكان مضطربا لا يعرف الاستقرار، وكان مؤمنا بالعقل، يشك ولا يطمئن إلى النتائج التي توصل إليها لأنه ساخط لا يعرف الرضى والقناعة متبرم بحياته مغرق في التشاؤم المظلم الذي لا قرار له فاستياء طه حسين من الواقع، وتمرده وسخريته بعقول الناس مصدره إلى حد كبير المعري فهذه الخصال واضحة في رسالة الغفران.
لقد كان تشاؤم المعري فلسفة شاملة للحياة والانسان، وتكون الغلبة فيها للخير على الشر، لذلك ابتعد المعري عن الناس ولم يتزوج، بينما كان تشاؤم طه حسين مؤقتا وجزئيا نجَم عن ظروف العمى أو الهجوم الذي شن ضده، وفصلِه من وظيفته، غير أن ذلك لم يمنعه من الزواج والتمتع بالحياة .كما يتجلى و بشكل من الأشكال من خلال البحث في فهم نفسية المعري وفلسفته وأدبه يوضح للمرء فهم نفسية وفكر طه حسين أيضاً.
حيث تسيطر روح العبث والسخرية في وصف المعري لأحوال الناس في الجنة والجحيم . والعبث أكبر مظاهر حساسية العقول. أما يقينه فكان يقينا حسيا من أجل الخلاص من ألمه وفي كل هذا يمكن فهم العذاب الذي لقيه طه حسين حين يصف حاله في كتابه (الأيام) وكتابه (أديب). كما يصف نفسه كأحد المعذبين في كتابه (المعذبون في الأرض)
بناء على ما تقدم يمكن إيجاز أوجه التشابه بينهما في نقاط أساسية وهي:
ـ في كتاب طه حسين عن المعري بعنوان ( ذكرى أبي العلاء) أو في الطبعة الجديدة لنفس الكتاب ( تجديد ذكرى أبي العلاء) نقرأ فيه حديث طه حسين عن نفسه في ثوب المعري على نحو ما . فهو يصف المعري بشدة الذكاء ودقة الملاحظة وحبه للعزلة.
وهي صفات تنطبق على طه حسين، لكن مع ذلك فإن العزلة لم تكن ميسورة لهما في كل الأحوال رغم حبهما لها .
ـ اندفع المعري إلى طلب المعرفة، وسافر إلى حلب وأنطاكية واللاذقية وبغداد رغم كونه منطويا وكذلك سافر طه حسين إلى الأزهر والجامعة المصرية في القاهرة، وإلى مونبليه وباريس والبلدان العربية والأوربية الأخرى طلبا للمعرفة والعلم .
ـ كان المعري معجبا بثقة المتنبي بنفسه وبديوانه أيضا وشعره الجيد وسماه (معجز أحمد) . وكان الشك الذي يراود المتنبي كشك المعري. او قل هو نفس الشك الذي كان يراود طه حسين . ويصف المعري الشك الذي يعانيه في ديوانه الشعري (لزوم ما لا يلزم) فيقول:
والنَّفسُ شَكَّتْ في يقينِ الأمرِ، والـ كَفّانِ إنْ رَمَتا قَنيصاً شَكَّتا 

أما عن طه حسين فأقل ما يمكن قوله هو نظريته النقدية في الشعر الجاهلي التي بُنيت على الشك.
كان طه حسين معجبا بقوة شعر المتنبي أيضا رغم أنه لم يكن يحب شخصه لاختلافات في التوجهات النفسية ، ولم تكن آلام المتنبي تثير في نفسه إلا الغيظ والازدراء .
وقد عدَّ طه حسين شعر المتنبي في مدح سيف الدولة من أجمل شعره، بل اعتبره من أجمل الشعر العربي كله وأروعه وأحقه بالبقاء
ـ شَكَّ المعري ومن بعده طه حسين بالشعر الجاهلي، وذكر المعري كيف انتحل ذلك الشعر. فقد ذكر بيتا شعريا في كتابه (رسالة الغفران)، أخذه من ديوان الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص وهو :هي الخَمرُ تُكنى الطِلاءُ كما الذئبُ يُكنى أبا جِعْده
واعتبر المعري أن ذلك البيت قد أُنتُحِل بأسم الشاعر لأن البيت قد قيل في الإسلام بعدما حُرمت الخمر
ـ وقد اتهم كل من طه حسين والمعري بالكفر بسبب كتاباتهما.
فالمعري اتهم بالكفر بسبب كتابه (رسالة الغفران). وأُتُهم طه حسين بالكفر بسبب كتابه ( في الشعر الجاهلي)
من الجدير بالذكر أن طه حسين يعتبر المعري مؤمنا أشد الإيمان بوجود اللّه وهذا الإيمان لم يمنعه أن يشك في كثير من المسائل. ودفاع طه حسين عن المعري هو دفاعه عن نفسه، فهو يتحدث عن إيمانه أيضا باللّه تعالى وبوحدانيته. وقد فهم حياة المعري لأنه كما يقول: رأى نفسه فيها.
ـ فكَّرَ المعري بالانتحار، وكاد أن ينتحر، حيث قال: لو أمنتُ التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب، حتى أخلص من ضنك الحياة وفكر طه حسين بالانتحار، بل حاول أن ينتحر حين ضرب نفسه بالسكين
ـ كان المعري معتزا بنفسه، كقوله:
إذا ما قلتُ نُظماً أو نَظيما تَتَبَّعَ سارقو الألفاظ لفظي
وكان طه حسين معتزا بنفسه أيضاً، فخوراً بذاته، واثقا من علمه حين يصف حاله في كتابه (الأيام )، وهو ينقد شيوخ الأزهر ويستهتر بعلمهم.
ـ كان المعري على اتصال بالخاصة من علماء وأدباء, وكان طه حسين كذلك، على سبيل المثال، اتصاله بأحمد لطفي السيد، وعبد العزيز جاويش وتشجيعهما ودعمهما له إلى أن أصبح كاتباً.
ـ كان المعري يعطي أحكامه المطلقة، حيث انتزع التقوى والورع من الناس . وكان طه حسين معروفا في إعطاء أحكام مطلقة في إنكاره أغلبية الشعر الجاهلي ثم تراجع عن بعض فقراته في الطبعة الثانية من كتابه بعنوان (في الأدب العربي) الصادر عام 1927.
ـ كان المعري متمكنا من اللغة العربية والأدب العربي، وأخبار العرب وخير دليل على ذلك دواوينه الشعرية، ولاسيما (لزوم ما لا يلزم)، وكتابه (رسالة الغفران). وكان طــه حسين كذلك في أعماله من كتب ومقالات ومقدمات ومترجمات ومنوعات كُتبت بلغة سهلة وجميلة ومتينة رغم تكراره لكثير من الكلمات. وأخيرا تقول سوزان عن زوجها طه حسين وهي الفرنسية: ‘‘إن طـه حسين كان أبا علاء آخر، هما إنسانان غارقان في الليل نفسه. إنسانان يرفضان قدراً ظالماً. إنسانان يملكان رضوخا خارقاً، وموهبة في التعبير اسـتثنائيـة. وكبرياء شامخـة، وجرأة فكر. كلاهما يعرفان نفسيهما ويريدان أن يكونا حُرَّين. وكلاهما كان يُحاكم العالم، دون أي وهم.

محمد مخلص حمشو

المزيد...
آخر الأخبار