ثمة بون شاسع بين الواقع والأسطورة, عند تناول الواقع المأساوي للهنود الحمر وهم يسطرون مشهداً مروعاً في تحديهم لقوى الطغيان والشر , قوى متسلحة بكل خبث ودهاء وأسلحة فتاكة ,أتت بزعران العالم كي يغتصبوا الأرض وثرواتها ويسحقوا أهلها , وتأتي الأسطورة لتنسج منها مقاربة واقعية صادمة , هذا ما قدمته الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في روايتها (مدينة البهائم )
ترجمة ثرية …
قام بترجمة رواية (مدينة البهائم ) القاص والأديب رفعت عطفة ابن محافظة حماة ,مدينة مصياف ,وله تجربة ثرية في عالم الترجمة (اللغة الإسبانية) وتحديداً أدب أمريكا اللاتينية ,وكونه كاتباً وأديباً قبل أن يكون مترجماً فإنه يصوغ ترجمة روائية بشفافية مرهفة .
عالم غرائبي
مازالت إيزابيل اللنيدي تغوص في أوحال النخب الخفية التي تحكم من خلف الستار , ترمي شباكها على بقاع شاسعة من الكرة الأرضية ,هي القوى المتنفذة والمستبيحة للبشر والطبيعة , في عالم يضج بالجشع والنهب لثروات أمم وشعوب ما زالت تعيش بحالة فريدة وتآخ مع الطبيعة , فهم أبناؤها البررة الذين يدافعون عن روح الطبيعة البكر , الطبيعة غير الملوثة بمفرزات الحضارة الحديثة,ولكن أصحاب القوى الخفية تحاول بكل ما تمتلكه من أسلحة مرعبة أن تدمر الحضارة و كل جميل بحياتنا ,تحت ذرائع مخاتلة كاذبة مضللة باسم الحداثة والتطور العلمي لخدمة البشرية .
وكل ذلك من أجل الماس والثروات الأخرى,قوى الشر تحاول أن تدمر آخر ما تبقى من غابات الأمازون ,وتحت غطاء البعثات العلمية . بطل الرواية (إليكس) فتى ذو خمسة عشر ربيعاً , تصحبه جدته (كات) التي تعمل لصالح محطة غرافيك ناشيونال كصحفية، مع فريق من العلماء، وتحت إشراف ضابط( نقيب) وحراس مسلحين ,هي بعثة علمية في ظاهرها ولكن جوهرها الوصول للماس واكتشاف معادن ثمينة أخرى مثل الذهب ,طبعاً السكان الأصليون لهذه البلاد وعبر تجربتهم الدموية مع هؤلاء القتلة كانوا لهم بالمرصاد , ولكن للأسف بأسلحة بدائية لا تصمد إلا قليلاً أمام أسلحة الموت الحديثة (بنادق ومسدسات ) وأثناء الصدام يتم اكتشاف مدينة البهائم ,أهلها نموذج مختلف عن الهنود الحمر ,قاماتهم طويلة لغتهم مختلفة عن الهنود , وكذلك أسلوب حياتهم ,هم نموذج للإنسان البدائي البكر, الذي لم يعرف أي شكل من أشكال التطور والحضارة الحديثة ,هو عالم مغاير للمألوف ,نعم هو أشبه بالأساطير.
إليكس وصديقته ناديا يقعان في الأسر (بقبضة الهنود الحمر) ويظن بأن الهنود آكلي لحم البشر سوف يأكلونهم أحياء ,ولكن يصاب بالذهول عندما يعزف لهم على آلته الموسيقية ,فإذا هم في غاية الرهافة والسحر ,هم متخلفون نعم ولكنهم يتذوقون ويدافعون بشراسة عن كل رائع وجميل في الطبيعة ,هو عالم مشبع بالإنسانية التي لم تلوث بمفرزات الحضارة الحديثة ,عالم من الدهشة لأناس يستبسلون في الدفاع عن آخر رئة تتنفس منها الطبيعة .
حرفية إيزابيل وهي تروي
من قرأ أعمال الروائية إيزابيل اللنيدي منذ روايتها الأولى (بيت الأرواح) يكتشف بأنها تملك سحراً خاصاً بالسرد, وهي توصف المكان والشخصيات , تسبر أرواح شخصياتها بكل ما تحمله من قبح وجمال , وهي منحازة للطبيعة والإنسان الذي ينزعونه من صفحات التاريخ والمستقبل ,ويتجلى روعة ما ذهبت إليه بأن قدمت بطل الرواية(مدينة البهائم ) فتى في مقتبل العمر ,ومن خلال وعيه الفطري وعينه البريئة أطلت على مجزرة مرعبة تمارسها تلك القوى الطاغية , فتى في مقتبل العمر لم تشوهه الحضارة الحديثة بعد ,ويملك من البراءة والشجاعة بأن ينحاز للحق وللإنسان المستلب في حريته وأرضه .
(مدينة البهائم ) صفحة من صفحات التاريخ المعاصر ,تتم تحت سمعنا وأبصارنا , دون أن نقوى على فضح تلك القوى الباغية التي تزرع الخراب والدمار أينما حلت.