لو تأملنا في قصيدة ( إلى محمد الماغوط الشاعر ) لخضر عكاري، لأدركنا أنها تقوم على حواريات تنسج مشاهد درامية تنبض بكل الحيوية والصدق والحماس.(1) وجدير بالذكر هنا أن هذه الحواريات تشكل حجر الأساس في المعمار الفني لشعرية هذه القصيدة، التي تندرج ضمن تقليد شعري يدعى بـ ( Apostrophe ) أي مخاطبة الشاعر للعظماء من الكتّاب المبدعين. (2) وضمن هذا النوع الشعري تنضوي قصائد شهيرة للشاعر الإنكليزي بن جونسون التي خاطب فيها عملاق الشعر الإنكليزي وليام شكسبير. (3) ينظر شاعرنا خضر عكاري في مأساة البعاد التي أضنت محمد الماغوط، فيدعوه للعودة إلى بلدته: تَخَمَّرْتَ بالبكاءِ الرّجيمِ تُناحِركَ المسافاتُ، تَفيءُ …. بِدِفْءِ عينيكَ لحظة العزِّ المطروشةِ بِالدماء …….. أَما آنَ لِنبضِكَ الحَرُونُ أنِ يرسمَ خُطا الصّرخاتِ المزروعةِ بالشَّتائمِ، والَّلعناتِ الملطَّخَةِ….. بِالغَبَاءْ. (4) تصوّر هذه المشهدية مأساة الماغوط بشقيها الداخلي والخارجي، فـ “البكاء” يعكس معاناته النفسية، وأما “المسافات” التي تناحره فهي تكشف مأساته الخارجية، ويتفاقم إحساسه بمأساته النفسية بسبب المسافات التي تفصله عن بلدته حيث ينشد الفيء والدفء. وتزداد درامية هذه المشهدية بفضل استثمار شاعرنا عكاري للمقابلات البديعية: فالبكاء يقابله الدفء النفسي، والمسافات المناحرة يقابلها الفيء. يستجيب ماغوط القصيدة على الفور لما لهذه الدعوة من وقع خاص في أعماقه، فهو يحب بلدته سلمية التي تشكل جزءاً من وطنه الأكبر: كُرمى لعينيكِ “سَلَمْيا” آتيكِ / حَشْوَ الكَفَنْ / … (5) تشير عبارة (عيني سلمية) إلى أن شاعرنا خضر عكاري يُؤنْسِنُ هذه المدينة، وتبرز تقنية الأنسنة أداة فنية تسهم في سبك حواريات هذه القصيدة، لأنها تغدو كائناً حيًاً ذا مشاعر وأحاسيس نبيلة. (6) ويمضي شاعرنا عكاري في حواره مع الماغوط فيستحثه على العودة إلى مسقط رأسه : أَمَا آَنَ الأوانُ، لَفْلِفْ صُرَّةَ التَّململِ في الغياب، وَجُنَّ…يليقُ (؟!) جنونُ الِّلقاء ! (7) توحي الألفاظ ( لفلف، التململ، الغياب ) أن شاعرنا يحس بجسامة مأساة غربة الماغوط، لذا يذكره بمأساته ويستحثه على العودة : شَطَبوكَ مِن شقائقِ الشِّعرِ، علَّقوكَ دهْراً فوق أعناقِ القوافي، شاعرٌ …….. مسرحٌ، وَبكلِّ صنُفِ الوَخْزِ أَوجَعُكَ. (8) إن استثمار الكلمات التي تمثل عملية الكتابة الشعرية وتلقيها ( شطبوك، علَّقوك، أعناق القوافي، شاعر ….مسرح ) دلالة على أن شاعرنا عكاري يبذل قصارى جهوده الفنية ليصوغ مأساة الماغوط على نحو ميتا شعري فتغدو مأساة شاعر، ومأساة أشبه بمأساة سيدنا النبي يوسف عليه السلام، أَنتَ اليوسُفُ في زَمنِ الشّرْذِماتِ، وفي غيابةِ الجُبِّ …غَيَّبوكَ ؟! (9) ويستطرد عكاري في استلهام التراث الديني، فيتخيّر مأساة صلب سيدنا المسيح عليه السلام بوصفها رمزاً للتراجيديا التي هزّت العالم بأسره: صَلَبوكَ مسيحَ القصيدةِ المفلوتةِ المحطَّاتِ، عَلَّقوا …. مشنقةَ الأَصَالةِ في رِقاب العذاباتِ الشّاعرة دقُّوا … مَساميرَ نعشِكَ جَفْلةً، تحت سَمَاءِ السَّقيفةِ الضَّامِرة؟! (10) تَشِي عبارتا ( مسيح القصيدة، والعذابات الشاعرة ) برغبة عكاري في سبك تراجيديا الماغوط على نحو ميتا شعري، فتغدو مأساة الماغوط مأساة شاعر وضع رسالة الشعر نصب عينيه فعانى ما عاناه . ويسعى شاعرنا عكاري إلى إزاحة كابوس تراجيديا الماغوط، فيستحثه على الإسراع في العودة. يجبل عكاري دعوته هذه بكلمات تنم عن غضب شاعرنا الناجم عن إحساسه بغربة الماغوط: أيها الماغوطُ ….، مَهْلاً … طَفَحَ الكيلُ وفاضَ، لَمْلِمْ خُطاكَ وشَقِّفْ حَجَرَ الغِيابْ. (11) فعلى غرار ( لفلفْ….صرة التململ في الغياب )، تقوم صرخة ( لملمْ خطاك وشقِّفْ حجر الغياب ) على صيغة فعل الأمر، الذي يشي بحرارة الدعوة، وتعمل الأفعال ( لفلفْ، لملمْ، شقِّفْ) على إظهار زخم هذه الدعوة، فهي دعوة إلى لم الشمل والعودة إلى البلد الأم: تعالَ….واغْفُ على ركبةِ البَلَدِ الـْ”خَلَّفتْكَ” وهَرَعْتَ حافياً بين زَواريبها، تتوجَّس ليلَها المَحْشوَّ بالحكاياتِ….(12) هنا تتبدى صورة الوطن بوصفه أمَاً وصورة الأمّ بوصفها وطناً، هذه الصورة الأثيرة التي شاعت في الآداب العالمية على مر العصور. وما استلهام عكاري لهذه الصورة إلا دلالة جلية على صدق دعوته للماغوط كي يلقي عن كاهله شبح الغربة الذي أضناه. وتكتسب عبارتا (زواريبها، والليل المحشو بالحكايات ) أهميتها ضمن إطار المشهدية الشعرية التي يرسمها عكاري في أثناء سعيهِ لإثارة شوق الماغوط إلى بلدته: أيها الماغوط …… مهْلاً….، لَكَ عِبِّ العَشَايا حَفْنَةً مِنَ الزَّبيبِ “وقَضُّوضَةً” مرشُوشةً بِالزَّيتِ والزَّعْتَر….، وعتابُ مشنشلٌ بِآهاتِ الزّيزفونْ….(13) يشير استلهام عكاري لهذه الأطعمة الشعبية التراثية ولأَِفَاويحِ حَبَقِ حواكير سَلَمْية وزيزفونها إلى بساطة هذه البلدة وجمالياتها الطبيعية . يعي عكاري حب الماغوط للطبيعة بوصفه شاعراً فيجعل أزاهير سلمية تناشده العودة ضمن مشاهد طبيعة تعبّر عن شوقها وحبها للإنسان كما باح بذلك عملاق الشعر الرومنسي الإنكليزي وليام وردزورث في أشعاره التي رقصت لها الطبيعة ومن سكن أحضانها: أيها البدويُّ المَدثَّرُ….بأنينِ الواحاتِ، المسفوحِ بهجيرِ ….تموز، تطاولَ غَنْجُ البيلسانِ، “عَرْبَشَ” مِلْهافاً…، يعانِقُ شَفَقَ السَّنَاء، ما هَدَّ…حَيْلَكَ شوقٌ إلى “المَصَاطِبِ” المجروحةِ بِالعتابا، ودبكةِ البيادر هَا… زامِرُ الّليلاتِ تَشَهَّاكَ موّالاً، مُنتَّفَ النَّبراتْ…(14) تؤدي المقابلات البديعية: الصحراء وحرّها وغربتها (المستوحاة من صورة “البدوي…. المسفوح بهجير تموز” ) والبساتين وجمالياتها ونشوتها وظيفة فنية بالغة الأهمية، فهي تؤكد أن عودة الماغوط إلى بلدته الجميلة بمنزلة إزاحة شبح الغربة والإحساس بالحب الأسروي، وعليه تبرز عودة الماغوط إلى أحضان بلدته التي ولدته وتتحرق شوقاً لتضمه وتعانقه. (15) تعالَ ……… أيها المنفيُّ في أحداقِنا، تَلَمَّسْ دربَ خلاصِكَ، وانْحَرْ …يَمَّ “سَلَمْيا” التي فَرْفَطَتْ حنينَها طولَ الطَّريق ! عَمَّرتْ وليمةً مِن التَّلهُّفِ والاشتياقْ. (16) تعكس عبارة ( فَرْفَطَتْ حنينَها طولَ الطَّريق ) رغبة بلدة الماغوط في لقاء وليدها، رغبة تتمظهر في سيرها نحوه الذي يعبّر عن تلهفها واشتياقها له بعد هذا الفراق. وعلى ضوء الحنين المتبادل بين البلد / الأمّ ووليدها، يرسم عكاري دراما اللقاء بين هذين المحبين. يخاطب عكاري الماغوط فيشجعه على النظر ملياً كي يرى بلدته وهي تتجه حنيناً ولهفة صوبه: أيها البَصَرُ الزّاَئغُ، تلمَّسْ نَدِيَّ الأَغاني، مَلولاً…. تَفِيءُ بحضْنِ الدَّوالي.(17) هنا تتبدى بلدة الشاعر في خياله فيناديها، وعلى الفور تستجيب لندائه وحبه: (( أنتِ …ببالي، /…سَلَمْيا…تَعالي، سَلَمْيا …تُنَاغي، سَلَمْيا …تُلَبِّي النِّداء/ …( 18) في غمرة هذه المشه دية الدرامية تبرز بلدة الماغوط أُمّاً هدّها الشوق وأضناها بسبب غياب وليدها، لذا يدعو عكاري الماغوط إلى العودة إلى بلده قائلاً: جَدّلْ ضَفَائِرَ النَّوايا، عَطِّرْ لهاثَها الشَّهي، ماذا…ماذا تَبقّى يا شَقي؟! (19) تكشف هذه المشهدية حميمية اللقاء المتوخّى وحرارته، وما هذه المشهدية والحرارة إلاّ تعبيران عن كنه الحياة الإنسانية وجمالها التي نذر شاعرنا عكاري نفسه وشعره في سبيلها، فهو ينظر في وَجَعِ اليتامى، نحيبِ الأَراملِ، وزعيقِ يَمَامةٍ، ضَاجَعَها الرَّعْدُ…فَمَاتَتْ ؟! (20) عندئذ يهب ويمتشق قلمه ليسطر أحلامه التي تنطوي على إرساء حياة إنسانية تقوم على الحب والخير والحق. وما دراما حوارية عكاري / الماغوط، وحوارية الماغوط / سلمية إلا دلالة على رغبة عكاري في إشاعة الحب، حب الإنسان لوطنه الذي يمثل الأم الرؤوم، الأمّ التي تحنو على أبنائها. هذه هي دراما الأرض والإنسان، الدراما المليئة بالحب المتبادل. وهذه الدراما المتبادلة إفصاح عن رغبة شاعرنا عكاري في تعميق رسالة الأدب النبيلة التي مَسْرَحَهَا شكسبير وغيره في مشهديات إنسانية رفيعة الدلالات. (21) الحواشي خضر عكاري، من تنهدات المراعي، شعر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص 8-22. جون فاولز، المصطلحات الأدبية والنقدية، لندن، 1980، ص 50-51. بن جونسون، الأعمال الشعرية، ليفربول، 1970، ص 12-14. خضر عكاري، ص8. الديوان نفسه، ص8. جون مانينغ، الصنعة الأدبية، نيويورك 1995، ص 100-102. خضر عكاري، ص8-9. الديوان نفسه، ص9. الديوان نفسه، ص9. 10.الديوان نفسه،19. 11.الديوان نفسه، ص9 12.الديوان نفسه، ص13. 13.الديوان نفسه، ص13. 14.الديوان نفسه، ص20. 15.الصنعة الأدبية، ص80. 16.الديوان نفسه، ص21. 17.الديوان نفسه، ص18. 18.الديوان نفسه، ص18. 19.الديوان نفسه، ص18-19. 20.الديوان نفسه، ص15. 21.روبيرت نايتس، مسيرة الشعر، لندن 1990، ص50-58.
أ.د اليــاس خلــف