مسرح أثر شكسبير في مسرحية ( زوار الليل ) للدكتور علي عقلة عرسان: شخصية الشبح نموذجا

 يقوم هذا البحث بدراسة الوظيفة الفنية والدرامية للشبح في مسرحية ( زوار الليل ) التي تبدو حصيلة اطلاعه على تراجيديا الأشباح عند الكاتبين المسرحيين البريطانيين توماس كيد وشكسبير، والكاتب المسرحي الأمريكي يوجين أونيل وغيرهم. ويؤكد هذا البحث أن شخصية الشبح تؤدي دوراً مهماً في ترسيخ الموضوعات النفسية والاجتماعية التي تعنى بها هذه التراجيديا . تبرز الدراسة الدقيقة لمأساة ( زوار الليل ) أنها عمل فني يعالج قضية الظلم الاجتماعي الذي ينجم عن علاقات ذكورية خاطئة تتفشى في أوصال مجتمعنا وتعمل على تدميره. وتتلخص أحداث هذه التراجيديا بما يلي : يتحدث الأصدقاء عن هند التي أحبت، فتخلى عنها حبيبها، وافتضح أمرها، فقتلها أهلها، وفي بطنها جنينها، أما حبيبها الغادر فقد تزوج من غيرها. و يدخل الشبح ( العجوز ) على أحمد فيكشف له عن سوء فعلته التي ظن أن لا أحد يعلم بها، ويخبره عن إخلاصها الذي تجلى في عدم بوحها باسم المجرم. ثم يتسلل شبح هند فيعاتب أحمد وتدعوه إلى مشاهدة طفلهما الذي يجري في الحقول، ولكنه يجبن على اللحاق بها. و حين تدخل زوجته سعاد يعترف لها بحبه القديم لغيرها، فتعترف له أيضاً بحبها القديم لغيره، ويطلب منها أن تدعه وتذهب إلى حبيبها الأول، لأنه هو نفسه سيلحق بحبيبته في العالم الآخر. (1) توضح أحداث المسرحية أن موضوع الظلم يشكل المحور الأساسي هنا لأنه يتمثل في ظلم المجتمع لهند، وظلم حبيبها لها، وظلمه لزوجته سعاد، وظلم سعاد له، وظلم هند لجنينها. ولمسرحة آثار هذا الظلم ، يوظف عرسان آليات فنية ( من عتمة وإضاءة وسكون وصمت وموسيقا ) ليبني فضاءً درامياً يرمز إلى أجواء الحزن والتشاؤم واليأس التي تسود هذه المسرحية : المسرح مظلم تماماً . وبعد فترة صمت قصيرة يبدأ ضوء أزرق شاحب بالظهور تدريجياً حتى يستطيع الإنسان الرؤية. يتضح على المسرح شبح . شبح إنسان جن أو مات في الأربعين من عمره. ذقنه طويلة بيضاء ….(2) في غمرة السكون المشع الذي تصاحبه موسيقا خفيفة بعيدة ويفضل الناي الحزين – يبدأ أحمد بالاستيقاظ وكأنه في غفوة .. يرفع رأسه وينظر إلى الجمهور في الوقت الذي يكون فيه الشبح آخذاً بالانسحاب والتلاشي شيئاً فشيئاً.. تقترب صورة أحمد وتتضح معالمها بواسطة النور. يبدأ الكلام بصوت من أبعاد عميقة مخاطباً الجمهور. وينفخ عرسان الروح في الشبح فيفصح أنه شبح آت من وراء جدار الموت ليدافع عن نفسه ويعلن براءته. إنني أكلمكم من وراء جدار سميك .. جدار الموت ، أو النسيان ، أو الجنون ، أنا بقايا إنسان … بقايا روح .. هيكل لشبح يدب على الأرض . جئت لأقول لكم: إنني بريء مثل أي طفل من أطفالكم الصغار . لقد اتهمتموني بأبشع الجرائم .. ولكنني لم أبدع الخطيئة ولست أول مذنب على وجه الأرض . نرى هنا أن الشبح لدى عرسان ليس مجرد كورس تقليدي خارج إطار أحداث المسرحية كشبح آندرايا الذي يفتتح مسرحية (المأساة الإسبانية) لتوماس كيد، ويعلق على أحداثها من حين إلى آخر، أو نمط مسبق الصنع كشبح الملك المقتول في مسرحية (هاملت) لشكسبير الذي يظهر ليكشف جريمة مقتله على يد أخيه كلوديوس، ويحث ابنه على الانتقام له (3). إن الشبح لدى عرسان بطل مأساوي يعري ذاته فيدعونا لنتأمل في تجاربه العاطفية الفاشلة والمليئة بالإحباطات النفسية : انظروا ( تدخل سعاد أو يضيئها نور في جانب من جوانب المسرح ) هذه سعاد زوجتي التي كنت سبباً في شقائها . وهذه المرأة التي تمر كنسمة عاطرة حزينة ( تمر هند على المسرح ملففة بالبياض ) كانت حبيبتي وماتت بسببي . وتتعاظم آلام أحمد النفسية فيلجأ إلى استثمار الثنائيات الضدية : الأحلام والواقع ، والحب والغربة ، ويصوغها بأسلوب ينطوي على أمنيات لم تتحقق: هذا هو بيتي … في تلك الزاوية كنت أتمنى أن أضع باقة زهر في أصيص . وهنا كنت أود أن يكون لي مكتب للمطالعة . وفي تلك الزاوية كانت تراودني أحلام الأثرياء والفقراء . هناك كنت أجلس وأحلم بأنني عظيم .. وأكتسح العالم بغمضة عين . وفي هذه الغرفة كانت تعيش زوجتي ويوجد فيها سريرنا المشترك . وتلك غرفة الضيوف كنت أتمنى أن أفرشها فرشاً جيداً ، وكنت أحلم بأن أعلم ابني العزف على البيانو ونظم الشعر . ويصعد إحساسه بالإحباط والفشل الذر يعين عن طريق توظيف التناقض الحاد بين ثلاثية البيت والحب والاستقرار العاطفي ونقضيتها التي تتجلى في التشرد والغربة والضياع . ويسكب أحاسيسه هذه فتبرز مأساة ترسم تلاشي أحلامه وانهياره العاطفي والنفسي : كانت لي أحلام الشعراء وأخيلتهم .. ولكني عشت كما يعيش اللص أو الشحاذ.. عفواً، أستميحكم العذر لقد عشت بالضبط كما يعيش الإنسان غريباً عن كل ما يريد … مبعداً عن أحلامه . يدل دور الشبح في تقديم نبذة عن أحداث المسرحية الخارجية والنفسية على أن عرسان فنان يستثمر شخصية الشبح التقليدية بصورة ابداعية ، فالشبح لديه بطل مأساوي من لحم ودم وعاطفة ، وهذا دليل جلي على رؤية عرسان التجديدية والحداثوية لهذه الشخصية الفجة والجافة التي انحصرت مهمتها في كشف الجرائم في المقام الأول . (4 ) ويمضي عرسان قدماً فيدعونا إلى مشهد ليلي يعكس رصيده الثقافي إذا إن الليل لدى شكسبير فضاء مظلم يرمز إلى عالم الجريمة واللصوصية ( 5 ) في الليل يكثر اللصوص و تخرج الخفافيش والذئاب وتتم الجرائم . أُحس أن في داخلي ليلاً وذئاباً وخفافيش وجرائم .. وأخاف أن تخرج أيضاً في الليل .. ولكن .. شيء عجيب . يدل انتقال الشبح من الليل الخارجي إلى ليل أغوار نفسه المظلمة على إحساس أحمد بذنوبه إثر مقتل هند ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الإحساس يؤرقه ويعذبه : إنني لا أستطيع أن أنام ولا أطيق أن أسهر وحدي .. أنظر من نافذتي إلى الليل فأخاف إنه مرعب . يذكرنا أرق أحمد بأرق ماكبث الشكسبيري الذي يقض مضجعه بعد أن أمر بقتل ضيفه الملك دنكن. (6) ومن خلال إحساس أحمد المؤرق يمكننا أن نرى أن الوحدة في أثناء الليل ما هي إلا انتقال إلى فضاء ضميره الذي يعذبه ، فحين تذكر أمامه كلمة ليل فإنه على الفور يتصور :”حفراً مخيفةً ، ولصوصاً بخناجر، و[يحس] كما لو أن عاصفة سوداء تحتاج العالم وتطفئ كل القناديل” . إن الانتقال إلى الظلمة المتمثلة في انطفاء كل القناديل ما هي إلا رحلة قسرية إلى أعماقه وضميره، ولاشك في أن العاصفة إشارة مجازية إلى غضب الطبيعة إثر حدوث الجرائم ، وهذا ما يذكرنا بما حدث في مسرحية (الملك ريتشارد الثالث) حين يرى بطلها أن عدم بزوغ الشمس صبيحة الحرب دلالة على أن مصيره سيكون أسود نتيجة لذنوبه الكبيرة والكثيرة . ( 7) وتتجسد الرحلة إلى عالم الضمير حين يخرج صديقا أحمد فيغدو وحيداً . وتتعزز فكرة الرحلة بفضل الأفعال الإرادية التي يقوم بها بغية الولوج إلى ثنايا ضميره : يغلق أحمد الباب ثم يعود بخطاً وئيدة ويجلس خلف منضدته . يشرب كأساً ويضع رأسه بين كفيه ويتكئ بمر فقيه على المنضدة . تمر فترة زمنية . الغرفة ساكنة ، والنافذة مفتوحة يحركها الهواء … أحمد يستغرق تماماً في أفكاره وكأنه في غفوة . إن دخول العجوز المفاجئ ما هو إلا تجسيد لضمير أحمد الذي يؤنبه على ما اقترفت يداه: إنك تهرب دائماً .. يجب أن تنظر إلى الليل وجهاً لوجه كي تستطيع مواجهة ليلك . ويذكر العجوز أحمد بجبنه حين قتلت هند: عندما أغمدوا في عنقها الخنجر .. أتصور أنها كانت تحمي جنينها بيديها… لم تشأ أن تصرح باسمك .. نعم .. إنها مخلصة؟ ويعاتبه العجوز قائلاً : لماذا تزوجت .. وكيف تزوجت ؟ فيرد أحمد: فكرت أن هذا ينسي . ولكنني لم استطع وها أنذا أتعذب . وهنا يؤدي الشبح دور الحاكم والقاضي، وهذا الدور أحد جوانب الضمير المؤنب: مذنب .. مسؤول …. مسؤول .. تذكرنا هذه المواجهة بين الشبح وأحمد بالأشباح التي تزور الملك ريتشارد الثالث في نومه والتي تذكره بجرائمه كلها. ويجب التأكيد هنا أن ريتشارد الثالث يدرك أن ظهور الأشباح من صنع ضميره الذي يدينه بصوت عال : “أنت مذنب ، مذنب”.(8) وتتفاقم معاناة أحمد في أثناء هذه المواجهة مع الشبح وضميره فيكشف عن شعوره بذنوبه التي تتجسد أمامه فتغدو ذكرى تطارده على الدوام : ولكنني لم أنس .. ولا أستطيع أن أنسى .. إن كل شيء تجسم أمامي ويلاحقني.. في مثل هذه الساعة من الليل كنا نلتقي وتنظر إلي فأرى بريق عينيها في الظلام لقد كانت بصفاء السماء الزاهرة . ويغرق أحمد في الذكرى والندم فيتوسل إلى الشبح أن يتركه : يا إلهي .. إنني أشعر بالدوار .. إن ذنوبي أصبحت تتجسد أمامي بشكل مرعب ..عدت لا أقوى على النظر في وجوه الناس .. كلما مشيت في الشارع أحس أن كل واحد منهم يشير إلي باتهام واضح . إن إحساس أحمد أن الجميع يتهمونه ما هو إلا دلالة على أنه يرى فيهم أشباح تذكره بذنوبه. ويؤكد عرسان دور الشبح في تنكيد حياة المذنب حين يدعونا للولوج إلى مشهد داخلي يحدث في نفس أحمد التي تضج بأصوات وصور ضحية جريمته . يخاطب العجوز أحمد قائلاً : إن ما يهمك هو أن تبقى في الظل.. تصم أذنيك كي لا تسمع الأنين وانسكاب الدموع والطواف الذائب حول بيتك ، هناك عيون تصلب ناظرة إليك كلما ضمكما أنت وزوجتك فراش ..عيونها وعيون الآخر.. لماذا تصم أذنيك وتحجب عينيك؟ تبرز أهمية هذا المشهد الدرامي في أنه يرصد معاناة أحمد الداخلية الأكثر إيلاماً ، وهذا ليس ضرباً من الهوس أو الجنون بل تصعيد لحدة العذاب النفسي ، العذاب الذي يسببه الضمير المؤنب والمعاقب . ويبرز إبداع عرسان في معالجته لطيف هند، التي تمثل مبادئ التسامح والحب التي يسعى لترسيخها في هذه المسرحية. فهي لا تبغي الثأر كما هو معروف في مسرح وروايات الأشباح. إنها تسعى بكل جوارحها إلى العودة إلى حبيبها ووالد طفلها: يا حبيبي جئت أعطيك ريحانة ، لا تؤاخذني ، إن بها رائحة الدم ، لم يكن ذنبي ، كنت أحملها حين فاجأني بخنجره . نلاحظ هنا أن عرسان يجعل من سعي الشبح التقليدي نحو الثأر سعياً نحو لم الشمل بين الحبيبين ، فهند غدت وحيدة لا تنشد سوى إحياء ذكرى لقاءاتها مع حبيبها : لقد قضيت ليال طوالاً حول بيتك أبلل تراب الدرب من جرحي الراعف أبداً كي يورق الحب . وأنظر بعينين جرحهما الليل إلى قنديلك المضاء وجرحي دام كالشروق. إن استثمار تقليد الشبح لترسيخ موضوع التسامح ولم شمل الأسرة يشير مجازاً إلى روح التجديد لدى عرسان ، وقدرته على رسم مشهد مفعم بالحب الزوجي والأبوي: الشبح ( هند ) : ألا تريد أن ترى طفلنا؟ أحمد ( يبكي بصمت ) الشبح : تعال معي . تعال وانظر إليه .. إنه يلعب بالأعشاب، سيجلس إلى جانبنا يناغي العصافير ويضاحكنا. تعال ( تمد له يدها ). أحمد : إلى أين ؟ الشبح : إلى الحقول … هناك سيضمنا مكان واحد . فراشنا الأرض . وسنرى السماء. تعال . تعال . يبرز هذا المشهد رؤية عرسان الرومانسية للحب الزوجي والأبوي الذي يترعرع في كنف الطبيعة المحبة. ويشير لعب طفلهما بالأعشاب ومناغاته للعصافير على التناغم المثالي بين الإنسان والطبيعة، الذي يتجلى في إسهام الطبيعة في هذا العرس فتقدم الحقول سريراً لهذين الحبيبين: “فراشنا الأرض . وسنرى السماء. تعال . تعال.” ونجد لزاماً علينا هنا أن نؤكد أن عدم رؤية سعاد ،زوجة أحمد ، لشبح العجوز وشبح هند تعكس جانباً هاماً في شخصية الشبح التقليدية ، لأن الشبح لا يتجلّى إلاّ للمذنبين ، وهذا ما نجده في مسرحية ( هاملت ) حيث يظهر شبح الملك المقتول ليحث ابنه على الثأر ولا تراه الملكة كيرترود، زوجته السابقة . ( 9 ) ونستدل مما سبق أن عرسان استمد قالب الشبح من التراث الدرامي العالمي إلا أنه أضفى عليه طابعه الخاص إذ وظف شبح العجوز وشبح هند لتعزيز موضوع مواجهة الذات والتوبة والتسامح ، وبهذا يتجاوز الشبح لديه حدود شخصية الشبح التقليدية المعروفة . وهذا دليل على إبداع عرسان الذي استطاع أن يجعل من هذا القالب شخصية تنبض بالحياة فتحقق مراميه الدرامية والفنية وموضوعاته الإنسانية المتنوعة . الهوامش محمد عزام: وجوه الماس: البنيات الجذرية في أدب علي عقلة عرسان، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1968، ص425. علي عقلة عرسان، زوار الليل، دار طلاس، حمص. انظر: توماس كيد: المأساة الإسبانية، تح. م. مرشانت، لندن 1980. و وليام شكسبير: هاملت، تح. أ. سبنسر، لندن 1990. المسرحيتان نفسهما. وليام شكسبير: الملك هنري الرابع، تح. ر. غور. لندن 1975. وليام شكسبير: ماكبث، تح. ف. ليرب. لندن 1990 وليام شكسبير: الملك ريتشارد الثالث، تح. ل. هاموند، لندن 1970. المرجع نفسه. وليام شكسبير: هاملت.

د. إلياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار