خلّد إنسان ما قبل التاريخ في سورية نتاجه الفكري والفني على جدران الكهوف والمغاور،من خلال النقوش والرسوم والتماثيل، فأصبحت سجلاً حافلاً بكل ما تركه الإنسان من أثر، وتطورت تلك الآثار فيما بعد لتتحول إلى لوحات جدارية مرسومة بفنية ودقة عالية وهذا يدل على تطور الحضارة في سورية عبر الأحقاب التاريخية المتتالية .
حفِل كتاب « الرسوم الجداريّة في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية » الصادر عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019 لمؤلفه الدكتور غطفان حبيب، بالعديد من الموضوعات الفنية والمعرفية المتعلقة باللوحات والرسوم التاريخية والأثرية ، والتي تلقي الضوء على مجموعة من الرسوم الجدارية في مواقع أثرية عديدة في سورية في فترة ما قبل التاريخ.
يتألف الكتاب من مقدمة ومدخل وخمسة فصول ، «وتكمن اهمية هذا الكتاب في أنّه يتخصص بالرسوم الجدارية التي تعود إلى الفترات القديمة في سورية التي تمّ اكتشافها مؤخراً والتي ما زالت طيٍ الكتمان حيث إنٍها لم تُعرض بعد، ومن هنا تأتي أهميٍة عرض هذه الرسوم وتحليلها. » ص(9)
يتطرق الفصل الاول إلي مصدر اسم سورية، المدخل التاريخي، الحضارة النٍطوفيٍة، الحضارة الخياميٍة، الحضارة المريبطية، العصر الحجري الحديث، العصر الحجري الحديث الفخاري، والعصر الحجري النٍحاسي.
ويرى الكثير من علماء التاريخ والآثار أن اصل كلمة «سورية » مشتق ُ من آشور التي ما بين النهرين ،وكان المصطلح الآشوري «آسورا عربايا » يطلق على ولاية سورية من حرٍان شمالاً إلى سيناء جنوباً، « وقد تحرٍف اسم «أسورا » إلى سورية، وكان الإغريق اول من استعمل هذه التسمية على لسان المؤرخ اليوناني هيرودوت » ص(17)
اما الفصل الثاني يركز علي الرسوم الجدارية المكتشفة ومواقعها ولعل ابرزها: الجرف الأحمر،المريبط جعدة المغارة، حالولة، بقرص…..
يقع الجرف الأحمر شمال شرق منبج ب/17/ كم وعلى بعد /100/كم إلى الشمال من مدينة حلب، وتشكل الرسوم الجدارية المكتشفة في هذا الموقع اقدم نوع من الكتابة التصويرية المعروفة في الشرق الأدنى بأكثر من خمسة آلاف عام
« اما تل المريبط فيقع في منطقة الفرات، قبالة مسكنة على جانب الجزيرة من الفرات، ولكن هذا الموقع غُمر بمياه بحيرة الأسد نتيجة لبناء سد الفرات. »ص(68)
وقد اجرت عدة بعثات اجنبية ووطنية اعمال التنقيب في الموقع المذكور خلصت إلى الاستنتاجات التالية:
أولاً -توافر البيئة الملائمة لاعمال البناء والإنشاء (اشجار الحور، البلوط في البادية، الحصى في وادي الفرات، طبقات الصخر الحواري الهشة،
ثانياً -تطور المساكن من مستديرة إلى مستطيلة .
ثالثاً -ابتكار ادوات جديدة مثل: راس النبلة من الصوان للقذف والرمي.
رابعاً -طلي المواقد المستديرة بالطين إلى جانب الحيطان والأرضيات.
اما جعدة المغارة «ترتفع عن سطح البحر (315)م وتقع فوق مرتفع بسيط وتبعد (1)كم عن بلدة صرين، يتربع هذا الموقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات وعلى بعد (120)كم شمال شرق مدينة حلب، وعلى بعد (30)كم جنوب جرابلس »ص(74)
وتعتبر الرسوم الجدارية المكتشفة في هذا الموقع من أقدم الرسوم الجدارية بشكل عام في سورية حتى الآن .
ويقدم الباحث في -الفصل الثالث -دراسة تحليلية للرسوم الجدارية تشمل القطع الفنية الحجرية في الجرف الاحمر، جدارية المريبط، جداريات جعدة المغارة لوحات حالولة الجداريّة و الارضية ،جدارية بقرص …
في حين يستفيض الباحث في -الفصل الرابع -بتقديم شروحات وافية عن تقنية الرسوم الجدارية القديمة في مواقع :
المريبط، جعدة المغدرة، حالولة، بقرص،
حيث استخدمت تقنيات متعددة في رسم اللوحات الجدارية حيث «استخدم الإنسان القديم ادوات صلبة وخشنة كأحجار الصوان وعظام الحيوانات لحفر الخطوط الخارجية المؤلفة للرسوم الجدارية التي كان يرسمها في معظم الأحيان، وأحياناً قليلة كان يستخدم اصابعه في رسم هذه الخطوط ولكن ليس على الجدران الصلبة بل على أرضية المغارة ..»
ص(149)
ومن اللافت في الرسوم الجدارية استخدام أصبغة طبيعية مختلفة لتلوينها تم استخراجها من الفلزات المعدنية والأتربة المحيطة بالكهوف والمغاور التي كانت مسكناً لانسان تلك الفترة …
ويختتم الباحث كتابه في الفصل الخامس بالقاء الضوء على أهمية الرسوم القديمة ودورها في الصياغة التاريخية والتطور الفني والفكري والاجتماعي، فيلقي الضوء على الدوافع التي ادت إلى نشوء الرسوم الجدارية و«تمثلت بالسحر وحب التزين، وحب الجمال وتسجيل الحوادث اليومية وملء الفراغات وتغطية المساحات الخالية من حوله، إضافة إلى تمييز بعض المساكن التي يسكن بها عن غيرها كأماكن للعبادة وممارسة الطقوس السحرية والدينية. »
ص(183)
وتقدم هذه الرسوم من خلال دراستها وتحليلها قراءة تاريخية حقيقية وصادقة عن الأفكار والممارسات التي كان يقوم بها ذاك الإنسان، لأنها مرسومة من قبله بشكل مباشر …
حبيب الإبراهيم