كتب المفكر والناقد الأدبي محمد راتب الحلاق عن تقصير النماذج السائدة لقصيدة النثر عن الوفاء بوعودها الإبداعية:
الشعر شعر بأي نمط كتب، أما عن الحد الفاصل بين ما يسمى بقصيدة النثر وسواها من أنماط القول الشعري فباﻹضافة إلى التحرر من الوزن، وهو اﻷبرز، ثمة فوارق أخرى تتعلق بحجم النص، واﻻقتصاد اللغوي، والتوتر الشعري الذي ينبغي أن يبقى في حالة من التوهج والقدرة على اﻹدهاش، من خﻻل الصور المفاجئة …. وقد وعدت قصيدة النثر بكل ذلك، لكنها لﻷسف الشديد لم تستطع الوفاء بوعودها، ولم تنجز هويتها الخاصة بها، رغم طول المخاض، اللهم إلا عند قلة من الموهوبين؛ بل كأن كتاب هذا النمط قد قالوا كلمتهم واستنفدوا طاقاتهم ولم يعودوا قادرين على إنتاج شيء جديد، وبدأت نصوصهم تجتر ذاتها، وتدور في المكان دون أي تقدم، اللهم إلا عند القلة من الموهوبين من كتابها. وأجرؤ على القول: إن من يسمون أنفسهم شعراء قصيدة النثر لم يستطيعوا تجاوز رواد هذا النمط من الكتابة، بل وأقول أكثر من ذلك : إن الرواد الذين كتبوا هذا النمط قد قالوا كل ما يستطيعون قوله في نصوصهم المبكرة ثم افتقدوا القدرة على إنتاج نصوص تحمل المفاجأة والمتعة والجدة واﻹدهاش، ولم يستطيعوا تجاوز ذواتهم، راجعوا، إن شئتم، ما كتبه محمد الماغوط في أواخر حياته وقارنوا ذلك بنصوصه اﻷولى وستجدون ما يصدق قولي. وأرجع الأزمة إلى عدم إنجاز قصيدة النثر هويتها وضوابطها مما جعل هذا النمط من الكتابة ( سداج مداح )، ليس له ضوابط تميزه من سواه، هذه الضوابط التي يتم الحكم بمقتضاها على النصوص، ويتم تذوقها من خﻻل معاييرها الخاصة، ومن خلال ضوابطها هي، كأي جنس أدبي آخر، ﻷن معايير الشعر وضوابطه المعروفة والمستقرة ﻻ تناسبها. وقد ظن بعضهم أن كل ما يتطلبه دخول عالم الشعر هو الجرأة وإطلاق صفة الشعر على ما يكتبونه، وإن أدى ذلك إلى التطاول على ضوابط الشعر المستقرة في الذواكر والأذواق باسم الحداثة، دون امتلاك الموهبة، أو اﻻستعداد الثقافي، أو التمكن من اللغة وسوى ذلك، مما جعل كثيرين من الأفدام والبغاث وغير الموهوبين يستوطئون حائط الشعر. وينشرون الهراء، مستغلين سهولة النشر، اﻷمر الذي أساء إلى الشعر عموماً، وإلى النماذج الجيدة مما يسمى بقصيدة النثر خصوصاً. وينسى هؤﻻء الحقيقة التي تقول: ( لا فن دون ضوابط)، وأهم هذه الضوابط التمكن من اللغة، المادة الخام التي تصنع بها وفيها النصوص، إلى جانب الثقافة العامة، والثقافة الشعرية المتمثلة باﻻطﻻع على تجارب اﻵخرين من اامبدعين الحقيقيين، إذ كيف يقبل المتلقي شعرا ينتهك النحو والصرف وقواعد اﻹمﻻء…؟؟!!. أنا ﻻ أرفض مايسمى بقصيدة النثر من حيث المبدأ، لأنني إن فعلت ذلك أخرجت نفسي من التاريخ، وﻻ أرفض أي نمط جميل من القول، بل كثيراً ما استمتعت ببعض النصوص التي كتبها من يملك الموهبة واﻷدوات في آن معاً .. لكنني أرفض ما ينداح في الصحف، وبعض المجﻻت، وعلى صفحات التواصل اﻻجتماعي، من هراء يمكن أن ينسب ﻷي شيء إﻻ للشعر . أما لماذا اختار غير الموهوبين أو أصحاب المواهب الرخوة ما يسمى بقصيدة النثر دون سواها لنشر هذا الهراء الذي يظنونه شعرا، وما هو بشعر يقينا، بل هو والﻻشيء سواء، فيعود إلى جملة أمور أهمها اثنان : أولهما الفكرة الخاطئة بأن كتابة هذا النمط متاح لمن يشاء ممن هب ودب … واﻷمر الثاني سهولة النشر وﻻسيما عبر وسائل التواصل …. ﻷن كتابة الرواية مثﻻ تكلف أمواﻻ لنشرها، وﻻ يمكن نشرها عبر وسائل التواصل بسبب حجمها، ومع ذلك فإننا نجد في الروايات المنشورة من قبل بعض المتمولين هراء أشد وأنكى، لكن عدم انتشاره كما هي حالة ما يسمى بقصيدة النثر جعلنا نظن أن اﻷمر يتعلق بالشعر فحسب. وما قلته عن الرواية ينطبق على اﻷجناس اﻷخرى. وقد مرت علي مخطوطات يطلب أصحابها الموافقة على نشرها ما أضحكني أحيانا، وأدهشني أحيانا، والدهشة هنا ليست لﻹعجاب، وإنما لجرأة بعضهم، رغم رخاوة الموهبة وقلة الزاد الثقافي، والجهل التام بأبسط قواعد اللغة.