الترفع عن الدنايا: قراءة في قصيدة “بطاقات شكر للخصوم” للشاعر أ.د راتب سكر


استوقفني عنوان هذه القصيدة، لأنه يبرز عتبة نصية مهمة تشجّعنا على قراءة هذه الزفرة الشعرية في ضوء رسالة الأدب الخالدة التي سطرها الشاعر والمسرحي الإنكليزي وليام شكسبير في مسرحية العاصفة التي كانت خاتمة لمسيرته الأدبية، وخلاصة تلخص فكره الإنساني القائم على الفضيلة والمحبة والإخاء والتسامح (1).
ففي هذه الرومانسة الرائعة – ( والرومانسة : هي عمل أدبي يمزج الواقع والخيال ويستثمر الغرائبية والعجائبية في سبيل تعميق رسالتها الفنية التي تتمثل في إصلاح ذات البين بين الخصوم ) – نرى الدوق المعزول يحضّ أصحابه الأوفياء على التمسّك بفضيلة الصفح السامية قائلاً :
دعونا ننس إساءات الآخرين،
دعونا نعف عنهم.
فكما تعلمون لقد عزلني أخي الذي ولدته أمي
لكنني لن أشهر السلاح،
سأشهر راية العفو،
فالعفو أبلغ من السيف وأمضى! (2)
هذا هو شكسبير الذي خبر النفس البشرية، وتغلغل في ثناياها. لقد درى أن الحقد يودي بصاحبه، فنادى بفضيلة الصفح:
فانية بهارج هذه الحياة!
زائلة زخارفها!
وأما الأفعال الخيرة
والنبيلة فهي سرمدية الوجود. فطوبى لمن يصفحون
وطوبى للذين ينسون أذى الآخرين!
انسَ واعفُ! (3)
يؤكد شكسبير أن الظَّلَمة في هذه المسرحية يتوبون ويؤوبون إلى الله، فيناشدون المظلومين أن يصفحوا عنهم. وتتم الاحتفالية بالعفو، ضمن مشاهد رقيقة تجعل العيون تفور بدموع الفرح والانشراح. يقول فريدريك التائب:
دعونا نترفع عن الدنايا
ونحلّق في سماء المودة
ونجوب الفضاء إلى أن نبلغ
عنان الفضيلة الحقة (4) .
في ضوء ثيمة الصفح الشكسبيرية هذه، يمكننا تذوق قصيدة شاعرنا أ.د راتب سكر، لأنها دعوة إلى العفو ولكن قبل الشروع في تحليل المشهديات التي تنطوي عليها هذه القصيدة، نجد لزاماً علينا النظر في عنوانها، فعنوان القصيدة “بطاقات شكر للخصوم” له أهميته السيميائية، ففي ظلاله تبدو هذه القصيدة كلمات شكر مسطرة على بطاقات ورقية، الأمر الذي يوحي بميتاشعرية هذه القصيدة، لأنها تشير إليها (وإلى عملية الشعر) بوصفهما فعليّ قول وكتابة، وبهذا يشي العنوان بكنه القصيدة ذاتها (5). ومن هنا نستدل أن هذه القصيدة ما هي إلا زفرات شكر ينفثها الشاعر، ثم يخطها على هذه البطاقات المجازية.
يستهل شاعرنا قصيدته بكلمة “شكراً” التي تفصح عن قلبه الكبير الذي يموج بحب إنساني سامٍ، ويرسم مشهدية مؤثّرة:
شكراً لجلاد يؤجل لحظة
دفع الكراسي
تحت أرجلنا
فربّ هنيهة سمحت
لمنديل يلوح على النوافذ
أن يرانا أو نراه (6).
إن تناسي آلام الإعدام المأساوية أمر جد مهم، فشاعرنا يرى في تباطؤ الجلاد في تنفيذ عملية الإعدام رقة، فهو عبد مأمور أبرز عطفه في تأخره عن تنفيذ مهمته. وما يهمنا هنا أن المحكوم عليه – ظلماً – ينظر في روحه التي تحرره من آلام مأساة الجسد وتنقله إلى فضاء سامٍ حيث المحبة والإخاء.
إن الانتقال من عالم الجسد إلى عالم الروح فعل رومانسي محض، لأنه يصور تعاطف محبي المحكوم عليه، ويتمظهر هذا التعاطف في عملية تلويح المنديل التي تبرز علامة وداع سيميائية. وللمنديل دلالته الرمزية، ففي مسرحية “عطيل” لشكسبير يقدم بطل المسرحية منديلاً لحبيبته ديزدمونه، ويحضها على حفظه لأنه يرمز إلى حبهما. إن تباطؤ الجلاد الذي يجيش قلبه رحمة، ومشهد المنديل الذي يمسرح لحظة الوداع الأخير ينسيان المحكوم عليه تراجيديا موته، ويدفعانه إلى التسامي والتحليق على متن روحه الرومانسي الفياضة بالصفح والمحبة.
يرسم شاعرنا أ.د راتب سكر مشهدية امتنان أخرى، ويفتتحها بمفردة “شكراً” مرة أخرى:
شكراً لنمام القبيلة
لم يقل في ورقة التخبير
إن صديقتي وقفت على الشرفات
ضاحكة بصوت من رنين
تحتفي بصباحها (7).
تقوم هذه المشهدية على ثنائيات ضدية: فالفتاة تستقبل صباحها الجميل بالبشر والتفاؤل، وما وقوفها “على الشرفات” إلا دلالة جلية على حبها للطبيعة ونورها الصباحي البهي. وأما النمام فجل اهتمامه تعكير صباح هذه الفتاة وتكدير عيشها، فهو يسيء فهم علاقتها البريئة بصديقها. إن هذه الفتاة ترمز إلى الصداقة والبراءة اللتين تنموان وتترعرعان في كنف الطبيعة التي تحتفي بهذه الصداقة البريئة، فتخصها بصباح منير. ويمثل النمام الخسة والدناءة، فهو سيء الظن، لكن صديق الفتاة هذه يتناسى لؤم النمام، وضعته، ويشكره لأنه:
لم يذكر الأسماء
في ورق القوائم
كان منشغلاً
ببعض شؤونه الصغرى
مريضاً في توهم يومه
حتى عماه (8).
هذا يدل على أن شاعرنا يمضي في توظيف تقنية الثنائيات الضدية، ليؤكد التناقض بين الصديق والنمام. ويتبدى هذا التناقض الحاد ميتاشعرياً، أي ظلال لجوء الشاعر إلى ألفاظ القول والكتابة التي تشير إلى الشعر بوصفه فعل كلام وكتابة كما ذكرت أعلاه.
فالصديق يستخدم الورق ليخط بطاقة شكر، أما النمام فإنه يستخدم الورق ليدرج “الأسماء” في “القوائم”.
يوظف الشاعر – إلى جانب ثنائية بطاقة

الشكر وقوائم التخبير – ثنائية مجازية في أجواء البراءة الحقة، وأما النمام فهو غارق في “شؤونه الصغرى” التي ترمز إلى ضعته ودناءته. وتلوح ثنائية أخرى: فالصديق والصديقة يستمتعان برونق الصباح الطبيعي، ويحتفيان بانبلاجه، أما النمام فيبدو “مريضاً في توهم يومه حتى عماه”.
تشير القراءة المتأنية إلى أن قصيدة “بطاقات شكر للخصوم” ما هي إلا تجسيد ميتاشعري وسيميائي لرؤية شاعرنا أ.د. راتب سكر للشعر بوصفه رسالة محبة، فهو يجعل المظلومين في هذه القصيدة ينسون آلامهم، ويعفون عمّن ظلمهم، ويشكرونه، وما الشكر – هنا – إلا المحبة بأسمى مراتبها. ويذكرنا مفهوم المحبة في هذه القصيدة برؤية أدباء عظام لهذه العاطفة الوجدانية السامية، ففي رواية “الأخوة كارامازوف” لدستويفسكي تتجلى المحبة بوصفها ناموس الحياة ذاتها:
“…يرى الأب زوسيما أن نرد على الخطيئة بالرفق واللين والحب المتواضع، لأن الحب قوة هائلة أقوى من سائر القوى، ليس لها مثيل في العالم، والحب معلم كبير، ولكنه لا يكتسب بسهولة، وإنما يحصل عليه الإنسان بثمن باهظ، بجهد متصل وفي زمن طويل، لأننا يجب أن نحب حباً مستمراً مطرداً”(9).
ويؤكد الأديب ميخائيل نعيمة في كتابه “مرداد” أن المحبة ليست بفضيلة، إنها لضرورة أشد من ضرورة الخبز والماء والنور والهواء، ويرتبط كل ما نحب بكل ما نكره، ولذلك علينا أن نحب كل ما نكره مثلما نحب كل ما نحب (10).
الحواشي
أعمال شكسبير الكاملة، العاصفة، تحقيق بيتر ألكسندر، الفصل الرابع، المشهد الثاني، السطور 20- 26 ص، 500 (بالإنكليزية).
المصدر نفسه، ص 506.
المصدر نفسه، ص 508.
المصدر نفسه، ص 509.
وليام كولن، الميتاشعرية في النقد الأدبي، لندن 1995، ص 12-16(بالإنكليزية)
د. راتب سكر، قصيدة ” بطاقات شكر للخصوم”، في أقرب من الأصدقاء.. أبعد من الخصوم. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2005. ص 20.
المصدر نفسه، ص (21).
المصدر نفسه، ص (22).
د. ممدوح أبو الوي، تولستوي ودوستويفسكي في الأدب العربي: دراسة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 184.
10 – المصدر نفسه، ص 185.
أ.د الياس خلف
المزيد...
آخر الأخبار