(قطرات من الندى) هي المجموعة الشعرية الخامسة للشاعرالراحل الأستاذ نصر علي سعيد التي صدرت عام 1996 بعد (بوح القوافي) التي صدرت عام 1982، و(نحن جمر الاحتراق) عام1983، و(عندما تفقد ظلك) عام1987، و(بوح وجمر وظل) عام1994، وتشتمل مجموعة (قطرات من الندى) الشعرية على موضوعات كثيرة ومهمة يمكن أن تستحوذ على انتباه القارئ والناقد الأدبي.
غير أنني أود دراسة صورة اليبوسة أو (اليباس) كما ترد في أشعار هذه المجموعة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الصورة تخيم على أجواء هذه القصائد، فزمن هذه الأشعار (زمن اليباس)
إذ نرى (الوحول اليابسة) و (الخبز اليابس) و (الشفاه اليابسة) و (القلوب اليابسة). وقبل الشروع في تحليل هذه الصورة الفنية، أود التأكيد أن شاعرنا يتأمل في الحياة تأملا عميقا فيراها عابسة قاتمة خاوية من القيم الإيجابية والمثل النبيلة التي تشكل جوهر الوجود البشري وقوامه،
ويطلق العنان لخياله الخصب فيهتدي إلى الصورة التي تكتنفها كلمة (اليباس) ويستثمر هذه الصورة فيبدع إبداعا كبيرا، إذ نجده يجند المعنى الحرفي الحسي الذي يمثل سخريات الحياة وتناقضاتها، ومن ثم ينتقل إلى معناها المجازي المعنوي الذي يكشف كآبة الروح التي (تجوع في المنفى) وغربة (القلب) الذي (يجوع) ولا يجد مأوى. ولكن شاعرنا لا يكتفي بتصوير أزمات ( زمن اليباس ) و مآسيه بل ينطلق من إساره فيستثمر صورة (الندى ) ويوظف معناها الحرفي الذي يشير إلى المطر الذي سيروي زمن اليباس هذا ، و بعدئذ ينتقل إلى معنى (الندى) المجازي الذي يدل على جود الطبيعة و سخائها و حبها لبني البشر ، و هنا تبرز أهمية الندى في زمن اليباس هذا لأنه يسعى جاهدا كي يعيد إلى ذلك العالم نضارته و زهوه و ألقه ، و من أجل دراسة هذه الصورة الفنية سأقوم بقراءة هذه القصائد قراءة متأنية و دقيقة لكي نتأمل فيها و نلج أجواءها الذاتية و نحس بما يعتلج في صدر الشاعر و تفاؤله و تطلعه الدائم إلى الحياة. فلو أنعمنا النظر في قصيدة (قطر الندى) لألفينا أنها بوح ذاتي رقيق صادق، ففي هذه القصيدة يرسم الشاعر ظلمة الواقع ويبوسته ويرى في الحب السامي السبيل الوحيد لإزاحة كابوس الغربة والكآبة الذي يخيم على العلاقات الإنسانية، يبوح المحب بوحا عفويا فيقول إنه يهيم صبابة:
لصديقة في أفقها قمرا ن
من خمر وجمر
قمر يطل من الصبابة شامخا
قمر يطل من الفضاء
على مدى عشاقه يمتد من كل الجهات
إلى زوايا الضوء يجلو ما تبقى من غبار
من على سقف السنين …….
تدل صورة (الغبار.. على سقف السنين) على يبوسة الواقع و جفافه، لأن المطر لم يهطل ليزيل ذلك الغبار، وتشير صورة القمرين إلى دلالات النور إذ سيكشفان ظلمة هذا الواقع، فهذان القمران (يفتشان عن الرؤى بين الندى)، ويمضي الشاعر ليصور وفاء هذه الصديقة التي تغدو حبيبة المحب في هذه القصيدة ،فهي سنده في غياهب هذه الحياة :
هلا عرفتم من تكون صديقتي
تلك التي في أفقها قمران
من خمر وجمر
سميتها زمن اليباس.. حبيبتي
فصديقتي عكازي لأمشي عليه
ونور عيني حين يشتد الظلام
تسير قربي في الطريق
ولا تخاف من انتباه الآخرين.
إن الظلام هنا ليس بالظلام المادي، إنه ظلام غربة الروح وكآبة القلب، وحبيبته هذه هي التي كل ما يملك في هذه الدنيا، فهي سر حياته ومصدر سعادته ولهذا السبب نجده يتشبث بحبه لها.
تؤكد عملية التسمية أن الشاعر يود أن يعرفنا هذه المرأة التي تمثل خلاصة الوحيد، ومن الواضح
أنه شحن اسمها (قطر الندى) بدلالات الأمل والتطلع إلى الحياة لأنه يشير (أي هذا الاسم) إلى الخصب والتجدد، فهذه الحبيبة تهب الحب والدفء وتبعد عنه كابوس الكآبة والمرارة والأنين، ومن هنا نرى أن الندى يزيل اليباس فتكتسي الأرض بالنباتات الخضراء التي تضج بالحياة والحركة والعنفوان، وفي ضوء دلالات العطاء والتجدد والخصوبة نجد أن اسمها الآخر (أم البنين) يبرز كناية عن عطائها الدائم وجودها المنقطع النظير.
وتسود ثنائية اليباس الندى في قصيدة (مرايا)، ولكن الشاعر لا يذكر كلمة اليباس بل يوظف صورة الغبار الذي يشير إلى اليبوسة وحجب النور أيضا، ولكي يكمل هذه الثنائية نراه يصوغها في ظلال التضاد بين المدينة وأجوائها الصاخبة والملوثة، والريف الهادئ الغنَاء الذي يرمز إلى الطبيعة الفاتنة:
في العيد تزدحم الشوارع
بالقصائد والصبايا
والرسوم الساخرة،
وترى الدخان يلف أحياء المدينة
من جهات واسعة
ويلف شارعها المقوس كله
وترى الغبار على النوافذ
والنوافذ نافرة.
ترمز صورة الدخان إلى اختناق الواقع. وتدل على أن الشاعر يشبه المدينة بكائن حي يعسر معه نفوذ النفس إلى الرئة فيؤدي إلى الاختناق والموت. وأما الغبار فيرمز إلى حجب النور وحجب أشعة الشمس التي تمثل تجدد الحياة وتفتحها.
وأما الحديقة فتختلف كل الاختلاف فهي تمثل الطبيعة الجميلة التي ترمز إلى العطاء و الخير و البراءة
الحقيقية:
ببركة الماء التي
غطت حقول الياسمين بسرعة
وتسربت لمساكب الورد القريبة والبعيد
فانتشى ورد الحدائق بالحنين والندى
والأمنيات الزاهرة.
تولد صورة الحديقة و ياسمينها و ورودها و أمانيها الزاهرة إيحاءات متعددة و متنوعة ، فهي تشير إلى أن الطبيعة هي الملجأ الوحيد و الملاذ الحقيقي إذ أنها ينبوع الحب و العطاء و الخير، و تنطوي هذه الصورة أيضا على تفاؤل الشاعر الكبير بتحرير الذات البشرية من أسار الواقع الكئيب ، فروحه الرومانسية تتطلع دوما إلى الخلاص ، فتحلق في أجواء الطبيعة لتهرب من واقع اليباس من حوله، و يمثل هذا الهروب الرومانسي موقف الشاعر الإيجابي لأنه دعوة جادة إلى الحياة المثالية التي تقوم على الوئام و الإخاء بين البشر و الطبيعة، و تغدو صورة اليباس و الاختناق هاجسا أساسيا في قصيدة ( و حنان كفيها انطلاق العاصفة )، حيث يتألم الشاعر لدى رؤية الواقع الذي يبعث الكآبة في جوانحه :
وتكاد ترتبك القصيدة كلما أطلقتها
صوب الأزقة باتجاه العابرين
لتحضن القدم التي اتسخت زمانا
بالغبار وبالوحول اليابسة.
ويمضي الشاعر فيرسم حالة الاختناق التي تشل الحياة ودورتها الطبيعية:
وتكاد تختنق الأزقة
حين تدرك أنها
صارت فراغا في فراغ
أو بقايا ذكريات دراسة.
و تدل صور (الغبار و الوحول اليابسة و الاختناق ) على الهلاك و الموت اللذين يهددان هذه الأزقة التي تمثل المدينة و أجوائها النتنة و الخاوية من نور الحياة و روحها و رونقها، و لهذا السبب نرى الشاعر يهرب إلى أحضان الطبيعة الحنون لتخفف وطأة إحساسه بآلامه الجسيمة، و تمثل فترة الشيب و الشيخوخة يبوسة حياة الإنسان و عمره، فمرحلة الشيخوخة و ما يرافقها من شيب و ضعف و فتور ، تشير إلى نهاية المطاف في عمر الإنسان ، لأنها ليست بمرحلة عطاء و عنفوان، بل مرحلة يبوسة أو ( يباس البرعم ) كما يسميها شاعرنا في قصيدة تحمل عنوان (همسة لأنثى الرمال ). ففي هذه القصيدة يصعد الشاعر معاناة أنثى الرمال لأن الحب فاتها وغدت وحيدة تكابد عذاب الندامة:
وتظل آنسة الرمال
تعض من ندم أصابعها وتغرق في البكاء
على يباس البرعم.
تتضح هنا الوشيجة الفنية بين صور اليبوسة كضياع عاطفي ونفسي وبين صورة الندى كرمز للحياة الحقيقية: الحب والعطاء والخضرة، وما اقتران أسم الحبيبة بالندى أو (قطر الندى) إلا دلالة جلية على هذا الموضوع، وفي ضوء فكرة الندى نلحظ ولادة الأمل الذي سينير غياهب زمن اليباس هذا:
وعلى هدير الموج مرت غيمة سوداء حبلى بالمطر
ضحكت رمال الشط بعد تجهم
ورنا إليها الشاطئان
كعاشقين تخاصما زمنا وعادا بعد حين
للندى والأنجم.
تدل ضحكة رمال الشط بعد تجهم على انبثاق التفاؤل من لحظات اليأس، فالتجهم تعبير عن الشعور باليأس والقنوط بسبب يبوسة الحياة من حولهم، وحين تلوح تلك الغيمة السوداء الحبلى بالمطر تستبشر رمال الشط، لأن الشاعر يشحن هذه الغيمة بدلالات الخصوبة والحيوية والأمل والتجدد، وفي هذا السياق تبرز أهمية معنى كلمة (حبلى): فمعناها الحرفي يشير إلى ولادة المطر وأما معناها المجازي فيشير إلى ولادة الأمل و(الفجر الجديد) الذي تسعى هذه القصائد إلى بلوغه.
وصفوة القول إن قصائد هذه المجموعة الشعرية الرقيقة تتضافر لتؤكد الدعوة إلى الحياة الإنسانية المثالية النبيلة وإلى التمسك بقيمها الإيجابية ومبادئها السامية، فهذه الحياة المنشودة تقوم على التواصل الإنساني الذي يعد غاية الوجود البشري وهدفه الأسمى.
و يجب التأكيد هنا أن صياغة هذه الدعوة في ظلال ثنائية (اليباس /الندى) فعل إبداعي محض لأنه يمثل الانتقال من عالم الواقع إلى العالم الجديد، و هذا الانتقال هو رحلة الفن من عالم الواقع الذي يرسمه إلى عالم جميل يسعى إلى بلوغه، حيث ينعم الجميع بالحياة المثلى، فاليباس الذي يشير إلى الجدب و انعدام الخصوبة يرمز إلى مشكلة انعدام التواصل الإنساني، وندامة آنسة الرمال، على سبيل المثال، تمثل انفصام أواصر الترابط البشري ،لأن الحب فاتها وغدت وحيدة حزينة تعاني آلام الندامة و عذابها المضني، وتبرز قطرات الندى لتزيل اليباس، الأمر الذي يؤكد أن نور التفاؤل ينبثق من غياهب اليأس و القنوط،فالندى (الذي يحمل دلالات الخصب وتجدد الحياة) يرمز إلى الحب السامي الذي يحمل في طياته العطاء و التفاني المتبادلين،وفي ضوء تحليلنا لثنائية اليبوسة والندى نلحظ أن عنوان هذه القصائد يكتسب أهمية كبيرة وأثراً فنياً بارزا فعنوانها (قطرات من الندى) يشير إلى أنها تكتنف نفحات من الأمل و ومضات من التفاؤل يرسلها الشاعر لتنير ظلمات الحياة البشرية وغياهب النفس الإنسانية. ويدل عنوان هذه القصائد أيضاً على قدرة الشاعر على رؤية الأبعاد الإيجابية للحياة المنشودة واستشرافها، فتتلاشى وطأة الإحساس بالضياع والتمزق النفسي ويتبدد الشعور بشلل العلاقات الاجتماعية والإنسانية وركودها في صحاري حياتنا هذه.
وكل هذا يمضي قدماً ليؤكد مفهوم الشعر والفن لدى شاعرنا الأستاذ نصر سعيد، فرسالة الشعر تكمن في السعي المتواصل والحثيث نحو غرس الأمل والتفاؤل والترقب عبر رحلة فنية من دياجير الواقع إلى آفاق الفجر الجديد، وإلى (الضحى)المنشود، وبهذا يرسخ شاعرنا رسالة الشعر قديمه وحديثه ويعزز أثره الاجتماعي والإنساني بوصفه فنا راقيا، ذلك الأثر الذي اكتسبه على مر العصور وفي مختلف البلدان.
أ.د. الياس خلف