هذا الصباح الذي يتقطر نسيما خريفيا مؤرجا بعبير الياسمين يمر على القلب ماسحا صدأ الخمول من حرارة الصيف اللاهبة.
هذا الصباح الجميل أسير ذاهبة إلى عملي وأنا أشعر أني ولدت من جديد وهذا الشعور يتجدد كل صباح مع كل نسمة وادعة صامتة تلامس وجهي ووجوه الذاهبين إلى أعمالهم ومدارسهم _ثملة أنا بهذه القصيدة_المكتوبة بيد الطبيعة.
وصلت عملي وأنا اعلم كل مايدور حولي من أمور علي أن أقبلها رغما عني .لقد أتممت الستين من عمري وقد تمت إحالتي للتقاعد دخلت مكتبي وأغلقت الباب فأنا بحاجة للهدوء وأن أكون وحدي فوحدتي الذاتية أحبها فهي لحظة سكونية صامتة مضيئة بتوهج الروح رغم وخز الألم الذي أعانيه ..
أسمع نقرات خفيفة على باب غرفتي.. الكل يريد أن يحاورني وعلي أن أتواصل معهم أحب أن أبقى مع أوراقي..وطاولتي وأقلامي كيف أبتعد عن هذا كله وقد أخذت شكل ملامحي أضحك لهذه السنوات التي مضت وكم يطيب لي أن أضع صورة عمري على كل غلاف وكل مجلد تمتد أصابعي بلا شعور لتلامس فيه الورق وأراه يناديني أرى الأرقام تضحك مشعلة ذاكرة الوقت الطويل من زمن ما وفي مكان ما .. تساقطت السنوات أمامي.. أربعون عاما من العمل الوظيفي صار جزءا من عمري دخلت صديقتي مبتسمة :
_نادية ! ماهذا الذهول الغريب الذي أنت فيه !وماذا يعني أنك تقاعدت ..ماالغرابة في الأمر ! كلنا سوف نتقاعد وتنتهي مدة عملنا .
نظرت إليها بحيرة وتساؤلات تشتعل في فكري وذاكرتي أجبتها:
_انا لا أرغب في أن أبتعد عنكم أربعون عاما أمضيتها مع الزملاء والأرقام شعور غريب ..غريب.. ما هذه النهاية التي يصل إليها الموظف! أهذا هو آخر مشواري أن ألتزم البيت ، أجلس والملل يأكل بقية عمري!
دخل المدير بابتسامته المشرقة المعهودة
صافحني بكل احترام وتقدير وقال لي:
_نادية! أمضيت معنا أعواما بمثالية وجهد متواصل ستقيم لك المديرية حفل وداع تقديرا لك ولزملائك المتقاعدين ..كان ذلك روتينا في كل دوائر الحكومة
وبعد انتهاء حفلة الوداع،ودعتهم وسرت في طريقي الذي تعودت أن أسيره ..ولطالما حفرت قدماي دربه .
دخلت البيت ..الكل ينظر إلي وفي عيونهم نظرات استغراب وعلى شفاههم همسات تساؤل الزوج_الأولاد_الأحفاد :
_ماذا جرى معك؟هل تقاعدت؟ لن تذهبي بعد اليوم ؟ هل سوف تكونين معنا دائما ؟
_أجل أحبتي سوف أظل معكم في المنزل ،دخلت غرفتي.أغلقت الباب.نظرت للمرآة تساءلت:
هل أنا لم أعد قادرة على العمل وهل الشيخوخة بدأت تنال مني!! تتالت الأيام وأنا في البيت أتخبط بفراغ وضجر
خرجت لحديقة قريبة من منزلي علني أروح عن نفسي وأزيح ما تراكم في نفسي من قنوط وكآبة جلست على مقعد تحت شجرة صفصاف ظلالها حجبت حرارة الشمس عني.. أفكر ماذا بإمكاني عمله حتى أملأ فراغي. مر أمامي رجل وقور عمره يقارب عمري نظر إلي بإمعان نظرة وكأنه عرفني اقترب مني ..سلم علي باحترام ثم استأذن بالجلوس وسألني ألست أنت (السيدة نادية)؟.
_أجل انا هي.. هل تعرفني!!
_نعم أعرفك جيدا أنت موظفة قديرة في قسم الحسابات، زرتك مرات في مكان عملك كيف حالك!!
_الحمد لله ..انتهيت من وظيفتي وأنا متقاعدة
_مارأيك أن تعملي معي؟
_أعمل!بماذا؟
_انا صاحب شركة ألبسة جاهزة وتحتاج الشركة لسيدة جديرة بإدارتها.. أتمنى أن تكون أنت.
_لامانع عندي
استلمت العمل وكانت بداية جديدة لعمر جديد قادم .
……….
رامية ملوحي