مدارات
في بيتنا لصٌ
في كلِّ بيتٍ من بيوتِنا هناكَ لصٌ دخيلٌ، لمْ يدخلْ خِلسةً كعادةِ اللصوصِ ،بلْ دخلَ بيوتَنا جهاراً نهاراً، والأنكى مِنْ ذلكَ
أنَّنَا نحنُ من فتحْنا لهُ الأبوابَ، واستقبلْناهُ بكلِّ حفاوةٍ وتكريمٍ حتَّى غدا فرداً مِنْ أفرادِ العائلةِ. يشاركُنا طعامَنا وشرابَنا بلْ ويقاسمُنا غُرفَ نومِنا.
ينامُ معَنا ويصحو معَنا ،يجلسُ على أريكتِنا ويقاسمُنا كلَّ ركنٍ مِنْ أركانِ المنزلِ حتَّى أنَّهُ باتَ يطَّلعُ على كلِّ أسرارِنا الشخصيِّةِ وأدقِ التفاصيلِ في حياتِنا .
في البدايةِ كنتُ أخالُهُ صديقاً لكنَّني وفي لحظةِ تَفكرٍ اكتشفْتُ لصوصيَتهُ، وذلكَ عندَما سألَتني ابنتي الصغيرةُ ذاتُ السنواتِ الأربعِ، لماذا أحبُهُ أكثرَ مِنْها ؟
كانَ سؤالاً صادماً ولم أجدْ جواباً مقنعاً لسؤالِها !
حينَها اكتشفْتُ أنَّهُ لصٌ محترفٌ
استطاعَ أنْ يَسرقَني من أبنائي وأنَ يَسرقَ أبنائي مني .
لقدْ سرقَ برََّ أولادي بي حينَما تكونُ استجابَتِهم لطلباتِهِ أسرعَ مْن استجابتِهمْ لطلباتي .
لقدْ سَرقَ لمساتِ أُمِهم الحانيةِ، حينما غدَتْ تعاملُهُ بلطفٍ ولمساتٍ حانيةٍ قدْ لايحظون بمثلِها .
لقدْ سَرقَ دفءَ السهرةِ واجتماعَ العائلةِ التَّي أضحَتْ بينَ يومٍ وليلةٍ مضاعفةَ الأفرادِ، فكلُّ فردٍ منهُم منفردٌ بقرينهِ اللصِ.
لقد سَرقَ حتَّى الابتسامةَ التِّي باتَ الجميعُ يبحثونَ عنها عندهُ ويكادونَ يَنْسَونَ ابتساماتِهم العفويةِ .
سَرقَ ساعاتِ عمرِنا لنكتشفَ صدفةً أنَّ والدَنا قدْ أحنَى الزمنُ ظهرَهُ وغزا الشيبُ مفارقَ رأسِهِ، وأنَّ أبناءَنا الَّذينَ كانُوا بالأمسِ القريبِ أطفالاً ،قدْ أصبحُوا رجالاً.
حتَّى أنَّهُ تجرأَ وصارَ يَسرقُ أقاربَنا وضيوفَنا حينمَا يأتونَ لزيارتِنا .
لقد سَرقَ دفءَ أجسادِنا و بريقَ نظراتِنا وكلُّ ذلكَ ونحنُ ممتنونَ لهُ، شاكرينَ لصوصِيتَهُ، نرعاهُ ونتعهدهُ إذا جاعَ هَرعْنا لإطعامِهِ، وقد نكونُ أكثرَ جوعاً مِنهُ.
إذا بَردَ نكسوهُ أفضلَ الثيابِ وقد نكونُ نرتجفُ من شدةِ البردِ. إذا مَرِضَ نَهرعُ لعلاجهِ وقد ننسنى العنايةَ بأنفسِنا.
لقد أضحى يقاسمُنا حتَّى أنفاسنا التِّي نتنفسُها.
سرق عواطفَنا وعقلَنا ودفءَ مشاعرِنا وراوبطنا الاسريَّةَ .
وكاد أن يسرقَ أحلامَنا ولو لمْ أنتبهْ لهذا اللصِ الدخيلِ لاستمرَ في غيَّهِ وسرقتِهِ .
وأعودُ لأجيبَ عن سؤالِ ابنتي الصغيرةِ بعد أنْ أضُمَها الى صدري وأقبلَ رأسَها وكأنِّي أراها للمرةِ الأولى .
لأشعرَ بدفءِ المحبةِ بعد أنْ ألقي بهذا اللصِ بعيداً عن متناولِ يدي .
قائلاً :
《أنتِ أحبُ إليَّ من كلِّ تكنولوجياتِ العالمِ 》.
وأعيدُ ترتيبَ حياتِنا على النحوِ الَّذي لايتركُ لهذا اللصِ الدخيلِ ولا لغيرهِ أنْ يستمرَ بسرقَتِنا
فلا تدَعوا الجوالَ يسرقُ حياتَكُم .
د. عبد الرزاق قبا خليل