قصةقصيرة: رحلة عمري

– نهض أبي ليستقبلني مع أفراد أسرتي .. وتأملني بضع ثوان بابتسامته الدافئة ، ولم يسألني شيئاً ، غير أن دمعة حيرى قد سالت على خذّه . 
سألته ما بك ؟ 
قال وهو يقبل الصغير لا شيء … لا شيء 
إنني سعيد بمجيئكم . تعالوا إلى جانبي .. اجلسوا لقد نورتم المنزل .. اقتربت منه وقبلت يديه . 
قلت له : ماذا تكتب إني أرى أمامك على الطاولة أوراقاً …؟ 
أجابني وهو يلملم أوراقه : إني أدون مذكراتي … 
والدي الآن في الستين من العمر وهو مدرس اللغة العربية في إحدى المدارس الثانوية . يحب عمله كمدرس. 
التفت إليه وقلت له : 
ــ أتذكر يا والدي عندما كنت في الثانوية قلت لي يوماً :   
ــ أتعلم يا حسام … إنني نلت الشهادتين الإعدادية والثانوية بدون مدرسة . 
.. سألتك باستغّراب : 
وكيف …؟ 
تنحنح والدي ذاهلاً وكأنه يستحضر من ذاكراته شريط ذكريات عمره كله , 
يقول لنا مؤكداً : 
ــ إن المهنة هي السند الوحيد في هذه الحياة . وكان شعاره دائماً 
( صنعة في اليد أمان من الفقر ) 
ذات صباح لا أنساه ابداً أخذني رغماً عني إلى صديق له ( نجار ) لأ تعلم مهنة ( النجارة ) وهذه المهنة جيدة … و… و… 
كنت أرفض بشدة لأنني أرى الجيران كلهم بعمري حاملين حقائبهم وذاهبين إلى المدرسة …  كان يضربني ويقول لي : 
ــ نبيل … لا تفكر بالذهاب إلى المدرسة أبداً … تعلم مهنة لتساعدني في مصروف البيت . 
كانت والدتي من الجيل القديم لا حول لها ولا قوة … 
كل صباح أذهب إلى معلمي النجار وآلام لا حدود لها تأكلني وتنال من عقلي وقلبي لأنني أبكي وأنا أسير وأمسح دموعي حتى أصل لدكان ( النجار ) . 
مرت سنتان ، وثلاث ، لا أعلم كم صار عمري ، وأنا لا أعرف طريق غير دكان النجار . 
كانت طفولتي قاسية . فيها المر .. وفيها الأشد مرارة … وكان والدي يضربني .. والمعلم يضربني إذا تأخرت عنه . لا أذكر أنني لعبت في الحارة مع أولاد الجيران ، ولا أمسكت بيدي دفتراً وقلماً . أو خططت سطراً على ورق . 
إلى أن أتى يوم لا أنساه أبداً . إنه ما زال في ذاكرتي إنها إشراقة شمس في ليلة مظلمة ظلماء … 
جاء إلى النجار أستاذ مدرسة ليضع طاولة له قال لي : 
ــ تعال وسجل المقاييس التي أمليها عليك . 
قلت له : 
ــ أعذرني لا أعرف الكتابة . 
استغرب كثيراً وقال : 
ــ أنت لا تعرف الكتابة أبدا ؟ وكيف . . ! 
ــ ولا أمسك طول عمري قلماً ولا دفتراً … ولا دخلت مدرسة . 
بكيت بلا شعور بحرقة أمامه من شدة ألمي وحزني على نفسي . 
اقترب مني بهدوء وقال : 
ــ لا .. لا تبكِ .. أمسح دموعك .. ما اسمك يا عزيزي … 
ــ نبيل . 
ــ اسم جميل .. أنا سأتولى تعليمك لا تيأس أبدأ ً .   
أحضر دفتراً وقلماً وكل يوم تأتي في المساء بعد أن تنتهي من عملك هذا .. وإليك عنواني .. ورقم هاتف منزلي . 
عندها شعرت أن أفراح الدنيا كلها سكنت عقلي وقلبي .. يا للسعادة الكبرى صرت أملك  دفتراً وقلماً !   
وهكذا بدأت أذهب كل يوم إلى ( الأستاذ ) دون علم والدي وتابعت دراستي حتى صرت أجيد الكتابة والقراءة .   
أحضر لي الكتب المدرسية بكل صفوفها .. قرأتها برغبة وأحببتها . وتابعت المنهاج المدرسي . 
بعد سنوات قليلة توفي والدي : وكنت فعلاً قد تعلمت مهنة النجارة وبدأت أعمل لحسابي … وأصرف على البيت وعلى تعليمي . ولن أترك دراستي … لأني على يقين أن العلم والثقافة جزء من كياني وعقلي … تابعت تعليمي مع معلمي ( الشهم النجيب ) الذي لا أنسى فضله عليّ مدى عمري . .. حتى نلت الشهادتين الإعدادية والثانوية . 
ودخلت الجامعة كلية الآداب ( فرع اللغة العربية ) فصرت مدرساً كما تراني . معلمي الذي علمني كل علوم الدنيا ، ما زال ماثلاً أمامي . صوته الجهوري المفعم بالحنان والعطف يسكن أذني وتفكري وخاطري … وهو يقول لي : 
ــ تعلم يا نبيل وأدرس .. الحياة لا تستمر ولا تساوي شيء دون علم . 
تزوجت من والدتك المدرّسة الرائعة التي ساهمت معي في بناء هذه الأسرة المتحابة وما زلنا نعمل سوية لنرى ثمارنا تزهو وتتألق … 
تلك هي رحلة عمري يا حسام … وهي لم تنته بعد . 
تطلعت إليه وكأنه كاد يختنق بالبكاء وهو يستعيد ذكرياته ، لقد كتبها بحلوها ومرها . وكم عانى في طفولته ودأب واستمر في تلقي العلم حتى صار مدرساً معروفاً . 
وضع يده على كتفي وهو يجلس إلى جانبي ويحدثني: 
ــ أتعلم يا حسام لماذا نظرت إليك بعمق عندما استقبلتك مع أولادك وزوجتك … 
كان قلبي يرقص فرحاً بقدومكم . 
أنا لم أكن ألمح في عينيّ والدي هذه الفرحة أبداً . كان صلباً قاسياً جاهلاً  همه جمع المال وأن اعمل أنا وأخوتي ونقدم له . 
ــ دعك من هذا ياوالدي الماضي ذهب والحمد لله أنت مدرس متميز ومحبوب . 
وبينما كنا نرتشف القهوة ونتحدث دخل ابني يقول له : 
ــ جدي … صديقك قادم إليك … 
ــ دعه يدخل . 
خرجت لاستقباله في حديقة المنزل . قال له : 
ــ صديقي نبيل . أتيت أبلغك أن مديرية التربية قررت تكريمك مع زملائك … ننتظر حضورك
! . 
رامية الملوحي
المزيد...
آخر الأخبار