تزخر الآداب العالمية بصورة الأم الرؤوم التي تضحي بنفسها في سبيل أبنائها ، و تشكل هذه الصورة هاجساً في تجربة الأديب مهتدي مصطفى غالب الذي نذر إبداعاته للإنسانية و الوطن .
و لكننا في عجالتنا هذه سنسلط الأضواء النقدية على تمظهرات صورة الأم المفدية في أقصوصة قصيرة جداً جداً موسومة ب ( بكاء) . و هذا نصّها :
( ركضت عصفورةٌ أمام ابنها ، و قالت له : سابقني .
حاول أن يسبقها ، لكنها سبقته إلى لقاء طلقة الصياد. )
تنضوي هذه الأقصوصة تحت جنس أدبي عريق عُرِفَ ب ( Epigram) الذي يعني باللغة اليونانية :
( النص المنقوش على النُصُب التذكارية و تماثيل العظماء ) ، و لكن سرعان ما تطوَّر هذا الكلام المنقوش فغدا نصاً ، منظوماً أو منثوراً ، وجيزاً طريفاً ذا أغراض مدحية ، أو قدحية ، أو وعظية .
عرَّف الشاعر الرومانسي البريطاني كولريدج هذا الجنس الأدبي قائلاً : ( إنه بناء لغوي مقتضب … كلماته قليلة ، لكن مراميها بعيدة . ).
على أضواء هذا الجنس الأدبي ، يمكننا القول إن هذه الأقصوصة تبرز مديحاً للعصفورة المسكينة التي لا حول لها و لا قوة مقارنة بالصياد و آلة القتل التي يصوبها نحوها و نحو وليدها . و الجدير ذكره هنا أن غريزة الأمومة الصادقة التي تموج في أعماقها تأبي أن تبث الرعب في نفس ابنها ، فتحوّل مشهد الخطر و العنف إلى لحظة مداعبة ، إذ تدعوه إلى لعبة السَّباق.
يُشكِّل سباق العصفورة إلى الموت انتصاراً معنوياً لأنها فدت فرخها بنفسها بعد أن استسهلت الموت في سبيل فِلذَة كبدها ، أو كبدها على حدّ تعبير الشاعر حِطَّان بن المعلى . بيد أن عاطفة الأمومة لدى عصفورة الأديب : مهتدي غالب تفوق عاطفة الأبوة التي تحدث عنها حطان بن المعلى في قوله :
إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمضِ
أجل , لقد آثرت العصفورة الموت الزؤام , لأنها لا تستطيع رؤية فرخها صريعاً أمامها.
و يظهر البعد القدحي في الأقصوصة حين يقتصد أديبنا في وصف مأساة الإرهاب هذه , إذ إنه يفرد لها كلمتين فقط : ( طلقة الصياد) ، ما من شك في أن وظيفة كلمة ( الصياد) بوصفها مضافاً إليه تعزّز صورته السلبية , لأنه مجرم مدان , فقد حرم العصفور من حنان أمه , فالأم نعمة من نعم الله التي أسبغها على مخلوقاته.
و يتراءى مغزى هذه الأقصوصة في احتفائها بصنيع هذه الأم الفدائية التي تأنف أن تتكتّف و ترى وليدها يلقى أمام عينيها . إن هذه الأقصوصة تحضنا على الانتصار لبلادنا و الدفاع عن ثراها الطيب .
و كما ذكرنا آنفاً ، تحمل هذه الحكاية الرمزية في طيّاتها صورة الأم بوصفها وطناً , فمن رَحمِها و رَحمِ الوطن وُلِدَ الأبناء , لذا فحماية الأم والأهل حماية للوطن ذاته . ففي مسرحية ( الملك إدوارد الثالث) لمجهول يبرز الأمير إدوارد البطل بمنزلة البَجَعَةِ التي تنقر صدرها فيتدفق دمها فيقتات صغارها . و غني عن القول هنا أن هذا الأمير الفارس يرى نفسه أمّاً لرعيته التي يحميّها و يغذّيها بدمه الزكي عند الضرورة.
و في مسرحية ( كوريولانس) لشكسبير تبدو فولامنيا أمّاً لبطل المسرحية التي سميت باسمه و لأبناء روما برمتها , حين تشجب وعيد ابنها بحرق روما و تذكّره بنيرون الطاغية الذي حرق أمه روما , فدخل مزابل التاريخ . و حين تنجح فولامنيا ينجو أبناء روما لأنها أقنعت ابنها ببلاغتها و وطنيتها , فتحوّل عن موقفه الخياني .
و في مسرحية ( تمبرلين العظيم ) للكاتب المسرحي و الشاعر البريطاني ( كريستوفر مارلو) تبرز أنثى النسر الدمشقي الذهبي ساهرة باسطة جناحيها الكبيرين على برج مدينة دمشق لينام أهلوها تحتها قريري الأعين .
و تتمثل روح التضحية في نفوس العذراوات الدمشقيات اللاتي يهبّن لاستعطاف الغازي ( تمبرلين) كي يعفو عن أبناء بلادهن , و تبلغ فدائية هؤلاء الفتيات أوجها حين يمتن في سبيل دمشق و أهلها .
و في مسرحية ( وود ستوك ) لمجهول يظهر بطل هذه المسرحية التي سُميَّت باسمه بمنزلة الفدائي الذي يضحي بنفسه قبل أن يرى مرتزقة الملك ريتشارد الثاني يدكّون عروش عزة إنكلترا و منعتها لتغدو فريسة يتراكضون على التهامها.
و تتمظهر هذه الصورة الناصعة لمفدّي الوطن في شخصية ( جيفري كلوستر ) الذي يتقلد مهامه بوصفه حامياً للملك و الوطن و أبنائه . و يشير النظر الفاحص إلى ( الملك هنري السادس) . لكن الطفيليين يتآمرون عليه , فسقوطه كارثة وطنية تجعل من إنكلترا لقمة سائغة أمامهم . و أمَّا كلوستر حامي الملك و الوطن فإنه يؤكد استعداده البطولي للشهادة في سبيل بلاده , فيقول الملك ما مفاده :
( ليت موتي ينهي هذه الفتنة العصية التي تحيق ببلادنا !
إنني أخشى أن ينقضَّ عليك هؤلاء الذئاب فينهشونك !
لكنني سعيد لأنني سأموت قبل أن أرى مأساة … بلادي أمام ناظري )
و بعد , هذه هي دلالات أقصوصة ( بكاء) التي اتخذت من العبرة الأثيرة ( خير
أ.د. الياس خلف