التقينا مساءَ الجمعة، في الثلاثينَ من كانون الأولِ، في مقهى أنيقٍ بفندقِ شيراتون دمشق، بناءً على موعد سابقٍ، حدَّدَهُ السيدُ جون بكلماتٍ فرنسيَّةٍ مقتضَبَةٍ، يهيمِنُ على طريقةِ نُطْقِ حروفِها شيءٌ من موسيقى لغتِه الإنكليزيةِ الأم، أثقلتِ الأسلاكَ غيرَ المرئيَّةِ للهواتفِ النقَّالَةِ المحمولةِ التي غدتْ مكوِّنًا جوهريًّا لوجودِ كلٍّ مِنَّا منذُ سنوات.
لم يطلِ اجتماعُنا، سلَّمَني مبلغًا محترمًا من المالِ موضوعًا في مظروفٍ زهريٍ ملوَّنٍ بزركشاتٍ طفولية، وبطاقاتِ سفرٍ ممهورةً بخواتمِ شركةِ طيران معروفة، مرفقةً بجدول مواعيدَ محددةٍ، يضمنُ التزامُها الوصولَ إلى قاعةِ الاحتفالاتِ الثالثةَ عَشْرَةَ في فندقِ الميرديان في باريس، قبل الساعة الثانيةَ عَشْرَةَ منْ مساءِ السبت في الحادي والثلاثينَ من كانون الأول، لمشاركة الملكةِ أليسار حفلَ استقبالِها عامًا جديدًا.
سادتِ اجتماعَنا لحظاتُ صمت، حاولتُ فيها إعادةَ صياغةِ أسئلتي الفوضويةِ التي خربَتْ كعادتها ترتيبَ أضلاعِ صدري الصغير، ووجدتني أسألُ نفسي بصوتٍ مسموع: “أتراها ملكة قرطاج؟ التي أورثتِ اسمَها عددًا غيرَ قليل من حفيداتِها، وراحتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ تضعُ لقبَ “الملكة” قبل اسمِها، تيمُّنًا بلقب جدَّتِها الأولى… آه إنها هي الملكةُ أليسار، إحدى أولئك الحفيدات، قرأت قصَّتي عن جدَّتِها، ومناقشتي لصورتها في ملحمةِ “الإنياذة” للشاعرِ الروماني فرجيل، فأُعْجِبَتْ بروعةِ حضورِ جدَّتِها في قصَّتي، ورغبتْ في تكريمي….”.
قطع السيد جون تزاحمَ تساؤلاتي المسموعةِ والمرئية، ودفعَ إلي بحزْمٍ غيرِ قابلٍ للحوار، حقيبةً جلديَّةً غاليةَ الثمن، ضمَّنَها بطاقاتٍ ومظاريفَ وكتابًا صغيرًا وأوراقًا يحتاجُ كلٌّ منها إلى وقتٍ كافٍ ولائقٍ لفكِّ مغاليقِه.
-2-
ترجحتِ الحافلةُ بركَّابِها الكثيرين، الذينَ غدوْتُ منذُ لحظاتٍ واحدًا مِنْهم، ابتسمتِ الفتاةُ التي تأبَّطَتْ دفاترَ وكتبًا ابتسامةً سريعة، كانتْ كافيةً لمنح وجداني فرصَةً سريعةً لإِعادةِ تشكيلِ جسرٍ رائقٍ على نهرٍ وقفتْ عليه فتاةٌ في مثل عمْرِها ذاتَ يومٍ بعيد، وسألتني متلعثمةً مسرعةً قبل أن يراها أحد: “هل صحيح أنكم انتقلتمْ من حارتٍنا، لم نعدْ نرى أحدًا منكم في الحارة، أمانة سلِّمْ على أمِّك وأختِك”. توقَّفتِ الحافلةُ فجأةً، ونزلتِ الفتاةُ صاحبةُ الدفاترِ والكتبِ مع النازلينَ في الموقف، وصعدَ غيرُهُم، فصَرخْتُ: “أليسار، إنها أليسار”، لكنَّ السائقَ أسرعَ مستغِّلا انكشافَ الشارعِ الواسعِ أمامَه، فحدَّثَتْني النفسُ قائلةً: “إنَّها أليسار، عادتْ ملكةً حقيقيَّةً، وأرسلتْ تدعوك… عليك أن تقبلَ دعوتَها…”، … فجأة، انعطفتِ الحافلةُ انعطافًا شديدًا، يمينًا ثم يسارًا، فرحتُ أضمُّ الحقيبةَ الجلديَّةَ إلى صدري، وأنا أتظاهرُ بمشاركةِ الركَّابِ حواراتِهم عنِ الجوِّ الماطر، ومواعيدِ انقطاعِ الماء والكهرباء ورجوعِهِما، وتذكَّرْتُ وسطَ جلبةِ الحوار، مواعيدَ السفر، وما تحويه الحقيبةُ الجلديَّةُ من خبايا، فقرَّبْتُها من صدري أكثرَ، فأكثر، حتى كادتْ تُطْبِقُ على أضلاعي، فوجدتني أستيقظُ استيقاظ من يكادُ يخْتَنِقُ في ضيقٍ شديد، وقد قرَّبْتُ من صدري وسادةً خاليةً أحْكَمْتُ إطباقَها على وجودي، فباعَدْتُها مسرعًا خائفًا من انكشافِ حالي على أحد، ولمَّا تذكَّرْتُ أنَّني وحدي في الغرفة الصغيرة، حاولْتُ تهدئةَ روعي قليلا، غيرَ أنَّني سمعْتُ صوتًا هاتفًا يقول: “إنَّ للحيطان آذانًا وعيونًا”، فارتبكْتُ من جديد، ورميْتُ الوسادةَ الخاليةَ التي تدحْرَجَتْ حتَّى ارتطمَتْ بعتبةِ المكان.
راتب سكر