ماضون تجاه الشمس

كنا تحدثنا في غير مادة وحوار حول مسالة جد هامة عن ذاك الفراغ المهيب الذي يحدثه غياب قامات فكرية وثقافية وأدبية وتساءلت وبصوت عالي بيني وبين نفسي وأمام العديد من الأصدقاء عقب لقاءات لنا مع بعض الأدباء الكبار أصحاب التجارب الباذخة والثرّة والممتدّة لعقود طويلة..
مع أدباء شكّلوا علامات فارقة في المشهد الثقافي السوري على أقلّ تقدير ..تساءلت : من يملأ كل هذا الفارغ ؟؟!!
من هنا انطلق للحديث عن ذات الفكرة واطرح ذات السؤال ولكن هذه المرة لا عن الفراغ الأدبي الفكري الثقافي ..ولكن عن الفراغ الاجتماعي الذي يتركه غياب أو رحيل قامات اجتماعية من مقام سنديانة أو ينبوع أو ربما جبل …
ولن أتحدث هنا عن رجالات شغلت هذا الحيز جراء خوضها حروبا ومعارك ضد الاحتلال الفرنسي مثلا ولا من جرّاء ارتدائها الزي الكهنوتي الديني واشتغالها أو انغماسها بطقوسه وتداعياته
ولكن من الممكن أن أتحدث عن قريتي ..عن رجالها ونسائها البسطاء الأنقياء الأتقياء الذين رحلوا بعد أن تماهوا مع الأرض حتى أخذوا ملامح حقلة قمح هنا وكرمة عنب وتين هناك..
عبّود الحسن –أحمد الحسن – يوسف البلول – محمد الرمو – يوسف الزهرة 
   رجال ونساء شغلوا ذاك الحيز الجمالي الاجتماعي ولعقود فكانوا من أبهى مفردات الحياة ومكوناتها ..رجال بلباسهم الريفي الأصيل بكرمهم الباذخ المنتمي للأرض تماما وللغمام ..
محمود درويش – أبو فيصل الموركاني – يوسف الحسن محمود الرمو  – علي العباس صاحب أول بئر ارتوازي في القرية فأنه كان في كل بيت 
رجال ونساء مازالت صورهم ماثلة أمام عيني وهم يتجهون شرقاً تجاه الشمس لطرقوا بابها ..نافذتها بكل حنوٍّ فيوقظونها
 ييمضون سيراً على الأقدام  تجاه حقولهم الحنون حاملين في أعينهم وبين أناملهم -التي تضيء ولو لم تمسسها نار – وعلى أكتافهم أحلامنا وآمالنا وآلامنا .. وبعض خبز وماء ..
قريتنا ببيوتاتها قليلة العدد كثيرة الخصال و قبل أن تأخذ ملامح بلدة ..برجالها الأوائل الذين عبّدوا بأقدامهم دروبها فارتسمت ..وهم من حفروا الآبار وحرثوا وزرعوا فكانت قرية وكان الجمال 
عباس المحمد – إبراهيم الدياب – خليل السلطان صاحب أول دكان في القرية فكان ما كان له في قلوبنا ونحن أطفالا – رحيل – فهد الفاسخ ..الخ 
رجال قرانا ونساؤها كم راق لي تأملهم وهم ينتشرون في حقولهم كسرب فراش بهي ..كسرب نحل خصه الله بما شاء وكان ..
وللنساء في قرانا وهن يحملن على رؤسهن الزاد في نهارات الحصاد ..لأهازيجهن في الأعراس لأغانيهن ..لوجوههن ملامح الفرح والسلام ..أم محمد زغبي – أم رمو – ام درغام – ام ابراهيم السعيد – أم احمد شاتو – أم عباس  – 
رجال قرانا ونساؤها مازالت أحاديثهم ..نبرات أصواتهم ..ضحكاتهم تملأ المكان والروح وهم عائدون مع المغيب – وكأنهم ما كانوا في شقاء بل نعيم –  ..يحملون الشمس على رؤوسهم ويصعدون بها تجاه تلال المغيب..
رجال ونساء حين يمرون يتركون بداخلنا ذاك الشعور الغريب الممزوج بالعزة والكبرياء وبالانتماء ..لم يختلفوا يوما ..لم يبخلوا يوما ..لم يغلقوا بوابات بيوتهم يوما ..ولأنهم هم كنا وكان الوطن وكانت الشهادة ..
لأنهم هم بكل ما ذهبنا إليه ولأننا من سلالة قمح وشمس وماء نرى اليوم ما نرى من أبناء لنا وأخوة شهداء فتحوا أبواب السماء دخلوها باسمين راضين  مرضيين ..
ولأنهم هم نرى مانرى من رجالات يطفحون قمحا وينابيع يقفون على خطوط النار وفي جعبتهم رغيفا وزجاجة ماء تاركين الدنيا وزخرفها وزيفها وراءهم لأناس رأوا الوطن بنوكا ومصارف وعقارات وأسعار بورصات و..الخ 
ولأنهم هم وفي بلادنا الكثير ممن يشابهونهم كانت سوريتنا وستبقى .
عباس حيروقة
المزيد...
آخر الأخبار