ـ منذ زمن ليس بعيداً, عرضت إحدى الأٌقنية الفضائية العربية, برنامجاً موسيقياً حافلاً، يتضمن أناشيد حماسية وأغانٍ وطنية, تعزفها وتغنّيها فرقة فنية معروفة, تحتضن تختاً شرقياً وترياً, ومجموعة كبيرة من المنشدين والمردّدين .. وقد أدّت هذه الفرقة عدة مقطوعات شهيرة، تمّ تلحينها وتقديمها في النصف الثاني من القرن الماضي, بخاصة في عقدي الخمسينيات والستينيات، وكانت المحطات العربية آنئذٍ, المسموعة منها والمرئية, تتناوب في إذاعة كلماتها وعزف موسيقاها عبر مايكروفاناتها أو شاشاتها, وذلك في الأعياد الوطنية والمناسبات القومية اللتين كانتا يُحتفل بهما من تاريخ لآخر.
ومن الأناشيد والأغاني التي قُدّمت في هذه السهرة المتميزة: ( المارد العربي) للموسيقار فريد الأطرش, و(حيّ على الفلاح) ،و(كلّ أبيّ عربيّ أبي)، و( دقّت ساعة العمل الثوري) للموسيقار محمد عبد الوهاب, و(مصر تتحدث عن نفسها) لكوكب الشرق أم كلثوم, و(الأرض بتتكلم عربي) للفنان سيّد مكاوي, و(الله أكبر)، و(وطني حبيبي) ،و(صوت الجماهير) ،و(عاش الجيل الصاعد) للمجموعة المصرية.
لقد أعادتني هذه المقطوعات إلى الوراء عدة عقود, وذكّرتني بالمناسبات الوطنية الغالية التي كنا نعيشها, كانت هذه المقطوعات تصاحبها وتصاحبنا, وكان الكثير منها يؤجج فينا الحماسة, ويرفع درجة رفضنا وتصدّينا ,ويدفعنا إلى تجاوز واقعنا المؤلم بكلّ سلبياته.
ـ على كل حال.. فأنا بعد أن استمعت إلى هذا البرنامج الموسيقي, أحببت أن أقدم بدوري بعض الإيضاحات والملاحظات , تتعلق بما قُدّم من أغان وأناشيد.. ويمكن إيجازها عبر النقاط التالية:
النقطة الأولى: إن ماقُدّم لم يُرْفَق بتاريخ تلحينه وغنائه, ولم يتم أي شرح عن المناسبة التي من أجلها لُحّن وغُنّيَ , فمثلاً: نشيد ( الله أكبر) قُدّم من الإذاعة المصرية إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, وأغنيات ( المارد العربي، وحيّ على الفلاح, وكل أبيِّ عربيّ أبي) قدمت بعد نكسة حزيران عام 1967, أما (دقت ساعة العمل) فقد قُدّمت عام 1962, (ووطني حبيبي وطني الأكبر) سُجلت في أثناء فترة الوحدة بين مصر وسورية.
والنقطة الثانية أن معظم هذه الأغاني الحماسية, تحتاج إلى موسيقا نحاسية , كي يكون وقْعها على الآذان أكبر, وتأثيرها في النفوس أكثر, وهي في الأصل قد سُجلت هكذا, والموسيقا الوترية التي رافقت هذه الأغاني في هذا البرنامج قد أدّت بعض الدور ولكنها لم تؤد دورها كاملاً كما لو كانت مصاحبة لموسيقا نحاسية, تسهم فيها الطبول والأبواق اللتان لهما وظيفة مميزة في تأجيج الحماسة وإشعال النفوس.
والنقطة الثالثة أن نشيد (الله أكبر) الذي تجاوب العرب معه من المحيط إلى الخليج, فردده (في الخمسينيات) الطلاب في مدارسهم, والعمال في مصانعهم, والباعة في أسواقهم.. لم يُقدَّم بصيغته الحماسية التي عرفناه بها في تلك الأيام، ربما بسبب الموسيقا الوترية التي رافقته في هذا البرنامج.
وربما بسبب بعض التعديلات التي طرأت على تكرار اللازمة, أو التغيرات في التوزيع الموسيقي, علماً بأن هذا النشيد لم يسجل إلا لمرة واحدة في أثناء المعركة عام 1956، في الإذاعة المصرية, وبالشكل الوحيد الذي تحفظه.
أما النقطة الرابعة والأخيرة, فهي أن المذيع الذي قدّم البرنامج, كان متحمساً أشد الحماسة للفقرات الغنائية التي تُعْرَض, واستغربت منه حرارة نَفَسِه العربي، واندفاعه بكلّيته نحو العروبة والوحدة العربية!.. وهذه الأمور لم تكن لديه (على هذه الدرجة العالية) في برامج أخرى له سبق أن تابعتها!! بل كنت أتخيل (وأنا أراه يتمايل طرباً مع اللحن والكلمات, ويسهب في تعليقاته السياسية العذبة) أنني أمام مذيع آخر!..
د . موفق أبو طوق