ما أجملَ أن تتراءى صور الأمس في الذاكرة, ما أجمل أن يمرّ شريط الذكريات عبر شاشة المخيّلة, صورة إثر صورة، وحادثة تلو حادثة، وحكايةً آخذةً برقاب حكاية!.. فكأن الذي جرى بالأمس قد جرى اليوم, وكأنّ الذي حدث في الماضي, إنما يحدث الآن, بل في هذه اللحظة بالذات!!
وها أنذا أستعرض أمامي, عدداً من أعداد جريدة الفداء, تاريخه يعود إلى شهر مميز تتلألأ أنواره في ستينيات القرن الماضي, أي إنه قد مضى على طباعته أكثر من خمسين عاماً, أوراقه قد طالها الاصفرار، وملمسه قد اعترته الخشونة, وتقليبه يتطلب هدوءاً وتؤدة خشية تلفٍ أو تمزيقٍ..إنه العدد (1249) الصادر في السنة الخامسة من عمر الجريدة, وعلى الصفحة الثالثة من ذلك العدد الاستثنائي, أقرأُ منتشياً مقالةً لي.. أولَ مقالةٍ نشرتُها في جريدة الفداء, المقالة كانت سياسية (!) على الرغم من أن عمري يومئذٍ لم يكن يتجاوز الخامسة عشرة, وهي تتحدث عن مؤتمر القمة العربي الثالث، الذي عُقد في المملكة المغربية, مدينة الدار البيضاء, وفيه اتفق الملوك والرؤساء العرب على ميثاق التضامن العربي..
هذه أول مقالة, بل هذه أول خطوة في تاريخ كتابتي على صفحات الصحف اليومية المخصصة للكبار.. كانت بداية لاتنسى, وتجربة لاتمحى , ومبادرة لاتُقدّر بثمن، وخطوة تتبعها خطوات !..
ـ خمسون عاماً أو يزيد مرّت على تلك المقالة, وحين أستعرض في ذاكرتي كيف كان وقْعها في نفسي, وأثرها في نفوس مَنْ حولي, ينتابني شعور غريب, يتغلغل في أعماقي, وينساب عَبْرَ جوارحي, ويملي عليّ بأن (للفداء) قصب السبق في استقبال محاولاتي الأولى, وفتح الباب على مصراعيه أمام مايخطّه قلمي!!..
ـ كانت ( الفداء) في تلك الأيام, على صغر حجمها، وبساطة إخراجها, تدخل كل بيت, وتزور كل دائرة, وقلّما يخلو منها مكتب أو عيادة أو مدرسة.. ما يُكتب فيها, يقرؤه معظم مثقفي حماة إن لم نقل جميعهم, فهي الصحيفة الوحيدة التي تضم بين جناحيها أخبار حماة وإبداعات كتّابها.. كانت أربع صفحات فقط, وكان ثمنها عشرة قروش لاغير, وكان كادر التحرير فيها لايتجاوز الأربعة, عثمان علواني صاحب الامتياز, ومحمد الحافظ رئيس التحرير, ومحرّرَيْن وحيدَيْن هما: عبد الحميد الريّس، وعبد الكريم كيلاني, وكلهم اليوم في رحاب الله, رحمهم الله تعالى أجمعين..
كان مركزها في البداية قرب فندق بسمان, ثم تحول إلى جانب نادي الضباط (مقر رابطة الشبيبة الآن)..
كان (عبد الحميد الريّس) رحمه الله, هو صلة الوصل الأولى بيني وبين الجريدة، بحكم معرفةٍ مسبقةٍ لا أذكر كيف بدأت، كنت أسلّمه مقالاتي أولاً بأول، وكان لايتوانى عن تشجيعي, ودفعي إلى المزيد من الكتابة, وعلى الرغم من حداثة سني, فقد كان يدفع ما أكتبه إلى المطبعة فوراً, التي كانت تبتلع بسرعة مايرد إليها قائلة: هل من مزيد؟
ـ الفداء صدرت في أول الستينيات ( أواخر عهد الوحدة ), وكانت تُطبع في مطابع خاصة هي مطابع أبي الفداء, الكائنة في شارع المرابط قرب ملجأ الأيتام.. وقد استمرت الجريدة في الصدور بعد سقوط الوحدة, واستمرت أيضاً بعد قيام ثورة الثامن من آذار, وكانت في البداية جريدة مستقلة لاعلاقة لها بأية منظمة رسمية, إلى أن أُلحقت في أواخر الستينيات بمؤسسة الوحدة للطباعة والنشر, وكان أول رئيس تحرير لها بعد إلحاقها بالمؤسسة صحفيٌّ عراقيٌّ لم أعد أذكر اسمه الآن، وكان يحرّر زاوية صحفية عنوانها: (ملاحظة صغيرة), تحمل توقيع (مشاغب)، وكنت أشاركه أحياناً في كتابة مادتها الانتقادية اللاذعة, ثم تتابع رؤساء التحرير, حتى تجاوز العشرة عبر هذه السنوات الطويلة, وكان آخرهم صديقنا الغالي الأستاذ عبد اللطيف يونس, الذي يدير حالياً دفّة قيادتها.
ـ مازالت جريدة الفداء مرفوعة الرأس، منتصبة الهامة.. وما زالت تسعى إلى نشر رسالتها الثقافية، على الرغم من أن العديد من الصحف والمجلات الحموية, التي كان لها ثقلها في أيام صدورها، قد توقفت قبل عشرات السنين, ولم تعد هناك أية محاولة لإعادتها بعد ذلك الزمن البعيد!! حتى من قبل الورثة الذين مازالوا يحتفظون بامتياز صحف آبائهم وأجدادهم!..
د . موفق أبو طوق