سيدة الغناء العربي والطرب الأصيل أم كلثوم، كانت تمثل جزءاً من وجدان الشعب العربي،هي معجزة من معجزات الدنيا، وفخر الشرق والموسيقى الشرقية, كانت عاملاً أساسياً من عوامل وحدة الذوق والشعور في الوطن العربي, ووحدة العواطف التي تثيرها في قلوب العرب .
أم كلثوم كانت ثروة فنية وتاريخية رائعة , وملحمة كبيرة من ملاحم الفن الراقي، كانت تمثل جزءاً من مشاعر الشعب العربي من المحيط الى الخليج, هي سيدة الزمن الجميل، عصر الفن الأصيل والوعي والفهم وعصر الاثارة العاطفية والروحية , زمن عمالقة الطرب الأصيل عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم واسمهان ووردة وتطول القائمة إلا أن أم كلثوم تتربع على قمة الهرم وقال احدهم شيئان لا يتغيران بالشرق الأوسط أم كلثوم والأهرام ..
وفي ذكرى رحيلها وقد ذوى الشباب , وتمضي أيام العمر و تمر على البال خاطرة من الماضي , فيخفق لها القلب حباً و حنيناً وتفر لها من العين دمعة , ذلك لأنها كانت مرتبطة بالحياة في فترة من فترات العمر , ثم ولت إلى غير رجعة ولن تعود لكن عبق ذكراها مازال يسكن الأنفاس , وفصولها لا تنمحي من الأذهان .
في منتصف ستينات القرن الماضي وحين كنت في موسكو ببعثة دراسية صدف وقتها وجود الفنانة الخالدة كوكب الشرق أم كلثوم في موسكو لتحيي حفلة طرب على مسرح «البولشوي» ، لكنه وقبل موعد الحفلة بأسبوع ورد اعلان تلفزيوني ينصح الناس الوافدين لموسكو لحضور حفلها بعدم المجيء وذلك لنفاذ جميع التذاكر واستحالة الحصول على تذكرة من السوق السوداء لأن سعرها وصل لرقم خيالي لا يقدر عليه إلا الميسورين , وكان أن تمت الحفلة بنجاح وأكد لي صديق من أعضاء السفارة السورية أن معظم الحضور كانوا من الروس والغريب في الأمر أن أغلبهم كان ممن لا يتكلم العربية ولا يفهمها لكن شهرة أم كلثوم وسمو فنها وروعة ألحان أغانيها دفعهم للحضور , وهذا ما علقت عليه وكالات الأنباء وعلى تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ مسرح «البولشوي «الذي تقام حفلات الباليه والموسيقى العالمية لتشايكوفسكي وبيتهوفن وموزارت وباخ وشوبان. .الخ
ثم حصل أن انتقلت في بعثتي الدراسية إلى جمهورية كازاخستان في وسط آسيا على حدود الصين وصدف ذات مرة وأثناء عودتي من سهرة ليلية في ساعة متأخرة وقبيل الفجر أن ركبت سيارة أجرة وكان الفصل وقتها شتاء والثلج يغطي بردائه الأبيض كل ما يسقط عليه , وكنت حينها ألبس معطفا من الفرو ويغطي رأسي طاقية الفرو الروسية الشهيرة « شابكا «وللعلم كنت أجيد اللغة الروسية, والمضحك بالأمر حينها أن شكلي وهيئتي وافقت الروس الوافدين من أوكرانيا تماما .
وغرابة القصة أن سائق التكسي ما إن سار بي حتى بدأ بتقليب ابرة راديو سيارته وأصوات تتداخل ونشاز حتى استقر أخيراً على صوت أم كلثوم وهي تصدح برباعيات الخيام .
استغربت منه ذلك وقلت في سري علَّه يَقلب المحطة بعد حين؟ لكنه استمر بسماعها بل لاحظت منه فوق ذلك أنه صار يتمايل برأسه؟ سألته بالروسية وبخبث وكنت لم أعرِّفه بنفسي على أني عربي فطلبت منه أن يقلب المحطة فأنا لا أفهم ما تغني وسألته هل هو يفهم ليترجم لي؟
التفت إلي وبكل لباقة قال : عفوك سيدي إن التي تغني هي مطربة العرب الأولى أم كلثوم وأنا أحب سماعها , ولا أحظى بها إلا بعد منتصف الليل حيث ألتقطها من بعض المحطات , واليوم أنا محظوظ؟
قلت له وهل تعرف العربية وتفهم ما تغنيه ؟ رد علي بحسرة وتنهد : لاللأسف . قلت له : إذن كيف ؟
قال : يا سيدي أشعر وأنا أسمع صوتها كأن روحي تنطلق بي إلى ملكوت الله حيث المجتمع السماوي السعيد، وحيث تطهر الروح فيه, ويستريح الضمير , ويُفتح باب الأمل . استغربت منه ما يقول وهو لا يفهم العربية فطلبت منه أن يعيد علي ما قاله؟ فتابع: إن صوتها يروي القلب , ويطلق الخيال .. فيه نسمة من رقة، ورنة وإيقاع , وأحياناً فيه رهافة ووقار وكبرياء .ازددت استغراباً لما أسمعه من أجنبي تأثر بصوت أم كلثوم مع أنه لا يفهم العربية . فقلت: إنك تبالغ. قال: عفوك يا سيدي حتى أن موسيقا ألحان أغانيها تخاطب العاطفة وتهز المشاعر. وتابع : آه لو كنت أملك المال لشددت الرحال إلى بلادها لأراها وأسمعها .
زادني حيرة وكررت عليه القول: عجيب أمرك كل هذا الإعجاب وأنت لا تعرف معاني الكلمات؟
قال يا سيدي أنا أفهم الكلمات من تناغمها , والروح هي التي تفسر معانيها . ثم ألا تدري أن للذوق قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية , وأن الموسيقا وسيلة نستطيع أن نعبِّر بها عن انفعالاتنا وأفكارنا وهي لغة إنسانية غير لغة الكلام ؟! .. هنا قلت له : أراك فناناً ولست سائق تكسي . ابتسم وقال : بل أنا أستاذ جامعي ..والحياة كما تعرف صعبة وشاقة وطلباتها تحطم الإنسان قبل أن يحطمه الموت ويشق على انسان أن يدعي السعادة معها , ومع ذلك فأنا أدعيها وأهرب بروحي في مثل تلك اللحظات الجميلة مع الراديو.. أظنك فهمتني . أفقت من ذهولي لما سمعته عند وصولي ثم نقدته الأجرة وانصرف..
ويهرب الزمان وتنتقل الحياة من القديم إلى الجديد بوتيرة عاصفة لا تبقي ولا تذر, ولولبية الحياة السريعة تعصف بالماضي وتمحو معالمه . وها نحن وصلنا لزمن نسمع فيه من بعضهن تغني « بوس الواوا ..» وغيرها .. وغيرها .. فالفنانة صارت تُشتهر لعريها المذِّل لا لفنِّها الراقي ومكانتها الانسانية ..
وأقول كلها طفرات سريعة سوف تزول وتمضي , لكن أم كلثوم ستبقى خالدة على مر العصور, خلود كلمات أغانيها , وموسيقاها العذبة , رغما عن زمن « الواوا «..وزمن علي الديك و»الحاصودة» .
محمد مخلص حمشو