نعود إلى الماضي قليلاً ..
ففي المؤتمر العام الثاني والعشرين للأدباء العرب ، الذي عقد في الجزائر العاصمة ، والذي كنت عضواً مشاركاً فيه ، اجتمع السوري والمصري واللبناني ، مع التونسي والجزائري والمغربي ، مع السعودي والبحريني والإماراتي ، مع أدباء آخرين من أقطار عربية أخرى .. اجتمعوا جميعاً في ندوات أدبية مشتركة ، وحلقات فكرية مشتركة ، وأمسيات شعرية مشتركة .. اجتمعوا على مائدة طعام واحدة ، وفي ردهات فنادق واحدة ، عبر جولات سياحية واحدة .. تناقشوا ، تحاوروا تشاوروا ، تسامروا بلغة واحدة بل بلهجة تكاد تكون واحدة !.
كان لكل منهم لهجته الخاصة ببلده ، لكنه حين جاء إلى المؤتمر خَلفها وراء ظهره ، ليتحدث كما يتحدث الجميع ، بلهجة واحدة ، هي الفصحى المبسطة ، حتى أصبحنا نتكلمها بعفوية وطلاقة لدرجة أننا قد نسينا أنفسنا ، نحن أعضاء الوفد السوري ، وغدونا نتحدث (بها ) فيما بيننا ، متجاوزين لهجتنا المحلية التي اعتادت ألسنتنا عليها منذ أن فتحنا عيوننا على هذه الحياة !.
من قال إن اللهجات المحكية تحول دون تواصل أبناء الأمة الواحدة ، ومن قال إن ( العامية) أو ( الدارجة) تمنع التفاهم والتخاطب بين الأشقاء العرب .. لقد تعدينا هناك كلّ العقبات ، وحطمنا كل القيود ، ,أدركنا أن (الفصحى) هي التي تربطنا جميعاً ، ,أننا قادرون على الحديث بها في كل حين،وكل مناسبة ،ومن دون حرج أو افتعال .
لم تكن اللهجة المحلية تمنع الدمشقيين من التفاهم مع أبناء حلب ، ولم تكن لهجة حمص تقف سداً منيعاً أمام حديث أبنائها مع جيرانهم الحمويين .. ولعل الذي سهل الأمور أننا نعيش في دولة واحدة ، نتنقل بين محافظاتها كما نشاء ، ونسافر من مدينة إلى أخرى متى نريد ، فاختلطت اللهجات بعضها مع بعض ، ولم يعد صعوبة في فهم ما يقصده الآخر .
ولعل هذا ما حصل بين( البيروتيين ) أو ( الطرابلسيين ) في لبنان ، وبين الصعايدة) وأهل المدن الكبرى في مصر ، وبين ( النجدين ) و( الحجازيين ) وأبناء ( منطقة عسير ) في السعودية ..
فالتواصل المستمر واللقاء المتكرر يزيح أية صعوبة في تفهم لهجات الآخرين !.
ثم انظروا إلى التقارب اللفظي و( اللهجوي ) الحاصل بين دول المشرق العربي ، بيين مصر وسورية ولبنان والأردن والسعودية ، وإلى التقارب اللفظي الحاصل أيضاً بين دول المغرب العربي ، بين تونس والجزائر والمغرب و موريتانيا .. كلا الجناحيين العربيين يتواصل مع أقطاره أكثر من تواصله مع أقطار الجناح الآخر .. على الرغم من وحدة المنشأ والتراث والتاريخ ببينهما ، لكن أقطار كل جناح على حدة ، تتشابك في الواقع ثقافياً وبشرياً وتجارياً ، وهذا ما جعل كل مواطن فيها أدرى بلهجة من يعيش قريباً منه ، فالتواصل المستمر إذاً هو الذي أذاب الفوارق اللفظية ، وحجم التباين اللغويي .. ولو كان العرب دولة واحدة ينتقل مواطنوها بين مشارقها ومغاربها من دون قيود أو حدود ، لما كانت هناك غرابة في لهجة أي قطر عربي ، ولما كانت هناك صعوبة في تفهم ما يتحدث به أي عربي .
ثم لو رجعنا إلى أصول تلك الكلمات العامية ، لوجدنا بعضها مستمداً من كلمات تركية أو فارسية أو فرنسية أو انكليزية أو بربرية ، لكن الغالبية العظمى منها مستمدة من أصول عربية لكلمات قد تكون رائجة في هذا القطر لكونها مهجورة في القطر الآخر ، فتبدو غريبة على الأسماع ثقيلة على الألسن ! .. على الرغم من مولدها العربي ومنشئها الواحد .
ألا نستخدم نحن هنا في بلادنا كلمات ( بوفيه ) و( نوفوتيه) و ( مدام ) وهي فرنسية ، وكلمات ( ستوديو ) و( باص) و ( تلفون) وهي انكليزية ، وكلمات ( عفارم ) و ( ألشين) و( يالنجي )وهي تركية !. هم أيضاً وفي أقطار عربية أخرى ، يستخدمون كلمات أخرى لها أصول أجنبية .
ثم تعالوا إلى الكلمات التي يستخدمها أشقاؤنا في المغرب العربي ، والتي لها أصول عربية لا نستخدمها نحن في المشرق العربي إلا قليلاً .
( دراري) : أطفال ، ( أرى) : أريد ، ( يخدم) : يعمل ، ( يبغي ) يريد ، ( ليمون ) : برتقال وهذه شائعة أيضاً في الساحل السوري ، ( حامض ) : ليمون ، ( حب الملوك) : الكرز ، ( تمة) : هناك ، ( يعوم ) : يستحم ،( نعاس) : نوم ، ( الهدر) : الكلام ، ( باللاتِ) : على مهل ، مشتقة من التعبير القرآني ( بالتي هي أحسن ) ….
وأخيراً … ألا ترون معي( اللهجات المحلية العربية) مشكلة قائمة لا تُحلّ إلا بوحدة العرب ، لاتُحلّ إلا في إطار الدولة الواحدة لكل العرب ، إلا في إزاحة كل القيود والحدود التي تحول دون تمازج وتزاور وتواصل المواطنين العرب ..
د . موفق أبو طوق