تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الأضواء النقدية على الرؤية الديستوبية التي تشيع في هذه المجموعة الشعرية الموسومة بـ (أنقذوا الماء من الغرق) للشاعر الصيدلاني ميرزا ميرزا التي أصدرها في عام 1996، إلا أنه كتب معظم قصائدها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، كما يتضح من لجوئه إلى تقنية التذييل التي تتخذ طابع ذكر تاريخ تأليف هذه القصائد. (1)
وما من شك في أن استثمار شاعرنا لتقنية التذييل بوصفها نصاً موازياً، كما أشار إلى ذلك الناقد الفرنسي جيرار جينيت، يبرز علاقة ذات طاقة قرائية، لأنها تذكرنا بالمشهد التاريخي الذي احتضن تلك الأحداث المفجعة التي أثارت غضب شاعرنا وأججت خياله الغني فأبدع صوراً بديعة تستوقف القارئ لأصالتها وجدتها.
لقد غضب شاعرنا ميرزا للمآسي الإنسانية التي حلّت على فيتنام وهيروشيما والجنوب اللبناني وغزة.(2) ويشير التدقيق إلى أن غضب شاعرنا يحاكي غيظ مجموعة من الصحفيين والكتاب المسرحيين البريطانيين في أواخر خمسينيات القرن الماضي وستينياته، الذين عرفوا فيما بعد بـ مدرسة الشبان الغضاب، لأنهم غضبوا على المجتمع البرجوازي البريطاني الذي جعل من حب المال والثروة هدفاً بحد ذاته، الأمر الذي أدى إلى انهيار القيم الإنسانية الفاضلة، فغدت بريطانية أشبه بـ(ديستوبيا)، أي مجتمع البؤس والشقاء والتشاؤم، لذلك سعى أولئك الكتاب إلى رسم معالم مجتمع اليوتوبيا الذي تخيله الكاتب والمفكر البريطاني السير توماس مور. وغني عن الذكر هنا أن (يوتوبيا) مور سفر مهم لأنه يصور مجتمع الخير والعدالة والجمال (3)
تؤكد فاتحة هذه المجموعة الشعرية الموسومة بـ (أنا شاهد هذا العصر) أن شاعرنا ميرزا يلجأ إلى ربط المتناقضات بنية ترسيخ رؤاه التشاؤمية الديستوبية إزاء عصره:
قطعان الأضواء المسبية تزعف
والثلج … دم الفتح
المطر… أسود من منبعه
أسود في اللقاء (ص 6)
إذا كان الضوء والمطر يرمزان إلى انبعاث الحياة وتجددها، فإن صورتي السبي الجماعي والدماء النازفة المستمدتين من المعجم الحربي العسكري توحيان بالأجواء الديستوبية لعالم هذه القصيدة حيث العداء والعنف والمرض والموت والظلام، فالمطر الذي يحمل بشائر الخير والبركة أسود داكن، وهذا دلالة على ظلمة دياجير الواقع المرير. وفي الحوارية الشعرية التي تدور بين الثلج والبكاء يرصد شاعرنا سنوات من عمر جنين شامي، فلا يجد سوى أحاسيس الخيبة والإحباط التي ولدت في أعماقه حزناً لن يبارحه:
الوجه الضاحك أبداً تمسه قهر الانتظار
كل شعرة مني في أصيص حزن
وكل مسام جسمي نوافذ سجن (ص16)
ترسخ صورة الجسد بوصفه سجن أحزان عديدة حنق الشاعر لأنه يأبى أن يقبل العالم الديستوبي من حوله، فذاك العالم لا يكترث بالفرد وحياته الشخصية الملأى بالأحزان:
لا مكان في عالم (اللافئة)
للهموم الصغيرة (ص17)
وفي عالم اللافئة الديستوبي يغدو المرء بضاعة تباع وتشترى، وهذا ما يقض على الشاعر مضجعه فيبوح قائلاً:
عندما نصير الأشياء المباعة
في حوانيت الثواني والدقائق
وعندما يكون الحزن والثلج عقارب ساعة الحضور
تستصرخ جدري اللقطاء
وجذام التاريخ
أرجوحة بحجم العالم لتسلية الأحزان (ص17)
تنطوي صورة البيع والشراء على تشييء الفرد هذا العالم الديستوبي، ويزداد هذا التشييء حدة حين يستثمر شاعرنا مفردات من عالم الطب، فالجذام مرض تتآكل فيه أعضاء الجسد وتتساقط. وتأتي صورة الأرجوحة المنزاحة عن وظيفتها المألوفة في حدائق اللهو والتسلية فتغدو حاضنة للمرض والألم، وهذا ما يقلق شاعرنا لأنه صيدلاني يرى في الطب والصيدلة مهنتين إنسانيتين ترميان إلى إبعاد المرض والألم عن الآخرين. فهذه الأرجوحة تدعو الجدري والجذام لتسلية الأجساد التي غدت أحزاناً لشدة اغتمامها وتألمها.
ويمضي شاعرنا في تسليط الأضواء على عبثية هذا العالم الديستوبي الذي يسميه بـ عصر الشفافية القاتلة، كما جاء في عنوان القصيدة التي سنتوقف عندها الآن. ففي هذه القصيدة يظهر شاعرنا موقفه التشاؤمي لأنه يدرك أن الشعر، بوصفه نبراساً ينير دياجير الروح الإنسانية والواقع من حولها، لم يعد مجدياً أو مثمراً في مجتمع أمة التراب المتخمر والدمع فقط:
ما الفائدة.. أن أكتب شعراً لأمة التراب المتخمر والدمع فقط
لا شيء يسقط
لا شيء ينهض
لا شيء .. لا شيء .. لا شيء .. (ص22)
فالركود سيد الموقف في هذا المستنقع الديستوبي، لأن أناس هذا المستنقع من التراب الذي يرمز إلى الجسد وحاجاته، الأمر الذي يعني أنهم فقدوا الروح الوثابة نحو العمل والخير، ولم يبق لديهم سوى الدمع الذي يعزز سلبية موقفهم إزاء ما يجري من حولهم. تعتبر عبارة «لا شيء» المكررة هنا من سخط الشاعر الذي يأبى أن يقف موقفاً سلبياً في هذا المستنقع الذي يشبه الكوابيس المرعبة:
لينسني العالم
فأنا خرجت من أحد كوابيسه
على عالم المرايا النحاسية
سئمت ذلك اللقيط الذي أسموه أنا (ص22)
تكتسب مفردة اللقيط أهمية بالغة هنا لأنها تشير إلى أن شاعرنا لا ينتمي إلى هذا المستنقع الراكد:
كل ما أراه منهك
يبصر موته في حصاه
وأنا.. لا شيء .. لا شيء..
لا شيء .. (ص23)
أجل، إن شاعرنا ميرزا ميرزا لا ينتمي إلى مستنقع الديستوبيا الراكد، لذلك نراه يستلهم قصة إنكيدو التي وردت في ملحمة جلجامش التي تعد أقدم ملحمة عرفتها البشرية (4) فهذه الملحمة تؤكد اندحار الوحشية والعنف أمام الإنسانية والعدالة، فإنكيدو، الذي انضم إلى مجتمع الإنسانية بعد أن نشأ في مملكة الحيوان وترعرع فيها، يرفض حياة السلام والوئام، ويحطم غابة السدر، فيؤجج غضب الآلهة فتصب عليه جام غيظها وانتقامها. ها هو ذا شاعرنا يندد بما اقترفت يدا انكيدو: أي إنكيدو..!
أنت قامرت بالأوطان وفزت بالحصى
ودموعي الكبيرة …
أتذكر موت الغابة في المدينة .. ؟(ص26)
تبدو مقامرة إنكيدو بالأوطان فعلاً طائشاً أدى إلى انتهاك الغابة وتدميرها، التي يجعل سشاعرنا من موتها مأساة يندى لها جبين الإنسانية بفضل روح الوداعة التي تثير أشعاره. ها هي روح الوداعة والرفعة تتمظهر في أبهى مظاهرها:
أي إنكيدو…!
نحن لا نعرف اسماً لشارع
يخترق أحشاء العصافير
والشعراء
نحن لا نرسل الفراشات إلى الحرب
ولا نصيد النملة الجائعة (ص27)
لكن إنكيدو ومن يرمز إليهم لن يسمعوا صرخة شاعرنا أو يفهموا مآلها، لأنهم غاصوا في مستنقع الديستوبيا الجائر. وهنا يزداد تألم شاعرنا شدة فيؤثر الموت على العيش في هذا المستنقع:
أنا الجواد المزركش الألم
أعطوني إبرة الرحمة! (ص52-53)
يرمز الجواد إلى الأصالة والبطولة، بيد أن كابوس المجتمع الديستوبي هدّه وضعضعه لذا يتوق إلى إبرة الرحمة كي يتخلص من آلامه التي لا نهاية لها. ويدل التدقيق هنا على أن آلامه ليست شخصية، إنها آلام كل من يعي تردي العلاقات الإنسانية وموت الحياة.
الحقة:
الحواشي
1-جيرار جينيت، عتبات النص، لندن، 1990، ص20
2-ميرزا ميرزا، أنقذوا الماء من الغرق، دار الجندي، دمشق 1996، ص 66،56، 46، 18
3-جون كون، معجم المصطلحات الأدبية، لندن، 1991، ص15
4-ملحمة جلجامش، تحقيق وليام بارتس، غلاسكو، 1950
أ.د. إلياس خلف