الخيال رفيق الإنسان
وعلى ذلك فالإنسان كائن خيالي..
ومنذ ــ خلقه الله ــ منذ وجد فوق هذه البسيطة رافقه الخيال وحكاية الإنسان الطويلة هي نفسها حكاية الخيال..
والإنسان لا يكف عن التخيّل..
لا يكفّ عن استحضار صور لم يسبق له إدراكها من قبل إدراكاً حسياً.
إنه قادر على تأليف صور ذهنية تحاكي ظواهر مختلفة وهي في الوقت ذاته لا تعبر عن ظاهرة حقيقية، لا تعبر عن صور تذكّرية!
والإنسان أيضاً في خياله يختار وينظم ويرتّب ويؤول حتى يصل إلى الصورة الجديدة .
خياله مرتبط بالماضي، متعلّق بالخبرات التي مرّت، والخبرات التي ستمّر..
خياله بلا حدود.. لا أطر له.. ولا حواجز.
وعملية التخيّل هذه لها أثر كبير في صياغة الأفكار وظهور المخترعات والمكتشفات والأنظمة والقصائد والنتاجات الإبداعية الإنسانية (من أدب وعلم وفنون) .
هناك من يستخدم (مصطلح الخيال) استخداماً مضللاً ..
هناك كثيرون من الناس اعتادوا على استخدام الخيال في حياتهم الاعتيادية تعبيراً عن الإثارة أو الإيهام أو الأحلام أو التفكير الهامس أو التذكير والخيال ــ هنا ــ هو ذلك كلّه.. الخيال أكبر من الابتكار..
ومن تعريفات الأدب في هذا الصدد: إنه لغة الخيال أو التعبير عن الخيال وهناك من يقول : إنّ الكلام الذي لا يحمل شيئاً من الخيال لا يدخل في باب الأدب والفن! !
تجليات الخيال العربي في التراث
في ألف ليلة وليلة شعر ونثر ــ نظم وسجع، قول فصيح وقول ركيك.
شباب غضّ يؤرقه الحبّ فيحطم الأغلال والقيود.. وآخر يتعذّب في صمت فيذوي ويموت!!
في ألف ليلة وليلة فقراء وبسطاء، يرضون بالكفاف.. وأثرياء يرفلون بالنعمة ، ويبالغون في المتعة والإنفاق !!
حياة واقعية بحلوها ومرّها..
وعالم من الأحلام والأخيلة..
و.. مدينة النحاس.. المدينة الخيالية التي اخترعها قصاّص ألف ليلة وليلة .
مدينة النحاس ظلّت عصية على الفاتحين والمكتشفين دهراً طويلاً ..
حتى قيضّ الله أن تفتح على يد واحد من أولياء الله الصالحين ..
مدينة النحاس (التي بسّطها لنا كامل كيلاني وقدّمها للأطفال) ! مدينة عجيبة، تقع في طريق الفتح التي سلكها (موسى بن نصير) إلى الأندلس..
ولما كانت هذه المدينة تختصر أرضين .. وتجتاز آثاراً ومشاهد تذكي خيال أذهان الفاتحين، وتداعب أحلامهم، وتثير فيهم السحر والتخيّل !
فقد افتنّ الراوي في وصفها .. بل أسهب في تصوير المدينة الساحرة . واستحثّ صور الخيال (! !) .
و .. بلاد المغرب حافلة بكل مدهش .. ومثير ..
والمؤرخون القدامى وضعوا هذه المدينة مرة في الأندلس ، ومرة في صحراء سجلماسة جنوب المغرب ! !
مدينة فيها من النفائس ما تحتار به العقول ..
والتاريخ الصحيح يذكر شيئاً عن هذه النفائس ! .
اشتهرت بلاد المغرب بكنوز يصادفها الذين أراد الله لهم الثراء بغير حساب في القصص أو في الحياة (!) حتى إنّ ( ياقوتاً الحموي ) في ( معجم البلدان) ليذكر مدينة (سجلماسة ) ويصفها بأنها من أغنى المدن ، وينبه إلى قربها من مناجم الذهب (!)
وهكذا ساعدت الحقيقة الخيال
وصوّر الراوي (مدينة النحاس) مدينة ثرية واسعة الثراء لا حدود لكنوزها ونفائسها، باذخة، رائعة البذخ ! !
امتازت (المدينة) عن سائر مدن الخيال بسورها العالي .
و.. كثيرون حاولوا أن يصعدوا إلى السور ففشلوا ( ! )
كل من صعد منهم ونظر إلى المدينة سقط ميتاً ( ! ! )
كان الذي يصعد يصفق ويرمي بنفسه فلا يرجع آخر الدهر(!)
و.. بقيت المدينة عصية .. مغلقة .. لم يدخلها أحد ولم يرما بداخل سورها إنسان (!)
و.. لكن هل ستظل المدينة عصية ؟ ومستعصية؟..
هل ستظل مجهولة لايعرف سرّها أحد..؟
هنا يلعب خيال الراوي..
المدينة لابد أن تفتح.. إذ ليس من الفنّ أن يبقى الشوق معلقاً.. ليس من الفنّ أن يظلّ مغلقاً.. فالراوي ـ القاص في ألف ليلة وليلة عارف بالنفس البشرية .. عالم يتوق الإنسان إلى كشف المجهول وإزاحة المستور.
هذا المكان الحافل بالعجائب, المزدحم بالأسرار لابد من مغامر والمغامر جريء, مقدام.. يتوهج نضارة وفتوة وعزماً وإرادة ..
المغامر واحد من أولياء الله الصالحين, بنى سلماً وتسلق السور وهو يتلو آيات النجاة, آيات من القرآن الكريم.
صاح وقد أشرف على المدينة:
ـ ياقوم , إن الله صرف عنا الشيطان!
وماذا رأى؟؟
عشر جو ار . باهرات الجمال يُشرن إليه أن ينزل.. فلم ينزل!!
وتلك مكيدة أهل مدينة النحاس حتى لايدخلها أحد..
الصة تركب جناح الخيال.. القصة تطير محلقة في سماء بعيدة.. تمضي منسوجة بعناية وحذر وإتقان..
مدينة النحاس.. مدينة الخيال المجنح, مدينة الخيال العربي المتفوق على السوبر مان)و (مغامرات طرزان) وقصص (الوطواط)!!
ولهذه المدينة مثيلاتها في التراث الحافل..
هناك (مدينة السحاب) و(مدينة النساء) وجزائر الواق الواق..
هناك مواقع لاحصر لها, أماكن حالمة.. وعوالم مرسومة بدقة متناهية كلها من صنع الخيال!..
هل أقول :
ـ سبق الخيال العربي (جول فيرن)
هل أقول :
ـ بفضله صارت هناك حقائق وإنجازات بشرية!!
في الليلة الثانية والستين بعد الثلاثمائة من ألف ليلة وليلة..
هناك فرس طائر!!
يقول الحكيم:
ـ يامولاي . إن منفعة هذا الفرس, أنه إذا ركبها الإنسان, توصله إلى أي بلاد أراد (!!)
ركبها ابن الملك , حرّك رجليه فلم تتحرك من مكانها !!
قال :
ـ ياحكيم , أين الذي ادعيته من سرعة سيرها ؟
جاء الحكيم إلى ابن الملك وأراه لولب الصعود, وقال له:
ـ افرك هذا اللولب!
ففركه!
وإذ بالفرس تتحرك وتطير به إلى عنان السماء, ولم يزل كذلك حتى غاب عن الأعين.
( والقصة مثيرة . إنها الطائرة الحديثة, إنه الطيران الذي نشهده اليوم):
في الليلة الثانية والسبعين بعد المائتين..
هناك في مدينة أندلسية مرآة كبيرة مستديرة عجيبة, مصنوعة من أخلاط إذا نظر الناظر رأى الأقاليم السبعة عياناً!!
كانوا يظنون أن الأرض مكونة من سبعة أقاليم (!)
أهذه المرآة حلم بقمر صناعي (!)
أم رادار .. أم تلسكوب يدور في الفضاء الخارجي (!!)
في الليلة العاشرة بعد الستمائة تقرأ:
ـ وأما دائرة الفلك فإن الذي يملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد من المشرق إلى المغرب فإنه ينظرها ويتفرج عليها , وهو جالس وأية جهة أراد أن يوجه الدائرة إليها فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأن الجميع بين يديه!!
وإذا غضب على مدينة ووجه الدائرة إلى قرص الشمس وأراد إحراق تلك المدينة فإنها تحترق!!
وفي الليلة الرابعة عشرة نجد أن (أحد الملوك أصيب بمرض البرص, وعجز الأطباء عن شفائه فأصابه غم ونكد شديدان! علم الطبيب بمرضه فحضر إليه , استخرج الأدوية والعقاقير وصنع له كرةً , ليضرب (الكرة) بقوة.
حتى يعرق كفه وجسده!! حتى ينفذ الدواء ويسري في سائر الجسد ليرجع إلى قصره ويدخل الحمام ويغتسل.. إنه دواء وعلاج فيزيائي ( إذ لما خرج من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد شيئاً من البرص)!!
وهناك في الليلة السابعة والخمسين بعد الثلاثمائة:
ـ تحدثنا شهر زاد عن البوق الذي إذا وضع على باب المدينة يكون المحافظ عليها ( إذا جاء عدوّ فالبوق يزعق فيُعرف ويُمسك به)
إنه إرهاص لجهاز إنذار مبكر(!!)
في الحكاية العاشرة بعد الستمائة جاء :
ـ وأما السيف فإنه لو جرد على جيش وهزه حامله لهزم الجيش, وإن قال له وقت هزه (اقتل هذا الجيش فيقتل جميع الجيش)
هي الشحنات الكهربائية وقاذفات اللهب!!
لقد استفادت أفلام الكارتون اليابانية والأمريكية من ذلك كله, وأخذت من عوالم ألف لية وليلة الكثير.. (ساسوكي, والفرسان الأبطال وغيرها) ـ ثم .. ماذا؟.. هناك الليزر وهناك مسدسات الإرهاب السريعة!
في الليلة الثامنة والثلاثين بعد التسعمائة, جاء فيها :
ـ وإذا غضب الحاكم على أحد قتله: يشيرعليه باليد اليمنى التي قام فيها الخاتم! يخرج من الخاتم بارقة, تصيب الذي يشيرعليه فتقع رأسه من بين كتفيه (!!)
هذا العالم المسحور.. هذا الخيال الحافل كله مبثوث في تراثنا العربي.. من المدن الخيالية, إلى الرحلات.. إلى قصور الجان المسحورة, إلى الكنوز الغريبة, إلى بساط الريح, إلى السندباد البحري, إلى علاء الدين ومصباحه السحري, إلى علي بابا والأربعين لصاً, إلى البلاد العجيبة, والأقوام المدهشة من عمالقة وأقزام وحيوانات ناطقة.
وهناك.. هناك . بلاد بعيدة غارقة في السحاب, أو غائصة تحت الماء هناك أشجار خيالية, وجبال نصفها من ثلج ونصفها من نار, وأنهار من عسل ولبن, هناك نوادر.. هناك حكايات الظرفاء.. والأذكياء والنابهين, هناك عالم مدهش, يجمع بين القسوة وتغريد الطيور .
بين المغامرة الخطيرة وروعة الطبيعة ولمساتها الحانية, بين القهر والغضب, بين عشق الأحبة ومصاحبة الأخيار.
هذا العالم المثير ينتصر فيه الخيال, بل يحلّق ناهضاً بعيداً عن القيود والأسوار .. وما نحتاجه هو الخيال الحر لا الخيال المؤطر مانحتاجه هو الحرية والمتعة لا الخوف ولا القيود القاسية والحقائق المفروضة بساط الريح صار اليوم طائرة: كان ممتطيه يدق طرفه قائلاً:
ـ انطلق يابساط الريح إلى طنجة؟
أو :
ـ خذني إلى الرياض!
أو :
ـ حلق بي فوق الشام!..
أو :
ـ دعنا نصب غداءنا في القاهرة!
الراوي كان يتخيل. وخيال صار من بَعْدُ, حقيقة, وهذه الطائرة تعبر البلدان وتقطع المحيطات, وتجعل العالم صغيراً, لكن الخيال مايزال يهفو بل يتوق إلى بساط الريح، وإلى باب افتح ياسمسم الذي كان يفتح بكلمة صار لدينا أبواب وأبواب تفتح بلمسة أو إشارة! كمصباح علاء الدين الذي يُمسح عليه فيحقق رغبته ويهتف ملبياً:
شبيك لبيك .. عبدك بين يديك!
صار (كمبيوتراً)، صار (جوالاً) يصلنا بآخر المعلومات والأخبار وما زلنا بحاجة إلى الخيال.. حتى اليوم.. مازلنا بحاجة إليه كحاجتنا إلى العلم
عالم الإنسان يتوق إلى الخيال كما يتوق إلى العلم والمعرفة وما نتاج البشر الفكري, ما إبداعاهم إلا أخيلة عاشوها, وإلا أحلاماً اشتاقوا إلى تحقيقها, وتوقاً أرادوا استنباته. فأورق وأزهر ثم أعطى ثمراً يانعاً..
.. و.. بعد الخيال يسهم في إثراء الإبداع الإنساني، يسهم في رفد ركب الحضارة الإنسانية, والخيال وحده يهبنا رحابة واسعة في الرؤية, الخيال وحده يجعلنا نشعر بأننا سعداء وأن الدنيا مأهولة بالحب والخير والعذوبة و.. الجمال..
نزار نجار