دخل غرفته مرهقاً من عمله .. استلقى على سريره لينام .. شعر براحة تامة وكأن السرير حض أمه الدافئ ..
تطلع إلى الجدار ، وكانت صورة أمه معلقة تزين جدار الغرفة ، حدثها كعادته قبل أن ينام .
ــ ما أجملك أمي .. ! أمي الحبيبة ( هند ) الصحفية البطلة ، أمي الشهيدة ، نهض وأمسك صورتها قبلها وقال لها :
ــ أمي أحب الحديث معك .. أخيراً أمي . حققت أمنيتك ، وصرت صحفياً مثلك ..
اليوم دخل عليّ زميلك ( أحمد ) في مكتبي فرحاً مبتسما وقال لي مهنئاً :
ــ كبرت إياد وأصبحت صحفياً كما أوصت والدتك وتمنت . يجب أن تكون صحفياً مداد قلمه لا ينضب أبداً راعفاً بطولة وإباء .. جريئاً .. ناجحاً .. صادقاً ..
جلس يحدثني عنك .. عن نجاحك في عملك الصحفي . وعن يوم شهادتك . تطلع إليّ وهو يرتشف فنجان القهوة وقال :
ــ أمك رائعة ( إياد ) كانت جرئية قبل استشهادها بيوم وهذا الحدث لا أنساه أبداً . اتصلت بي وكانت قلقة جداً . دعتني لأشرب معها فنجان قهوة في مكتبها وعندما دخلت مكتبها أغلقت الباب وقالت لي :
ــ أنت الصديق الوحيد الذي أرتاح إليه وأثق به . إنني حزينة جداً ..
أحمد .. إن ذاكرتي تستعرض أحداث أكثر من نصف قرن من الاحتلال الإسرائيلي لبلدنا فلسطين . إلى متى نبقى والدمار والاعتقال والإعتداء على الحرمات .
أنت تعلم ( أحمد ) بالأمس كانوا يملؤون بيتي بضحكاتهم , وأحاديثهم ، واليوم لا أحد بجانبي إلا ابني ( إياد ) ابن العاشرة ووالدتي .
منذ أسابيع استشهد زوجي .. ثم والدي .. وبعدها أخي هذا شيء فوق الاحتمال . قاطعتها قائلاً :
ــ افصحي ( هند ) ! مالذي تريدين قوله .. ؟ أنا معك وسنكون يداً واحدة بإذن الله .
ــ أريد أن أشارك في عمل نضالي .
ــ كيف .. !
ــ أريد أن أنتقم لشهداء الإنتفاضة ,لأهلي .. ولإبني الصغير ..
هدأت بعد أن اطمأنت لوجودي معها .. وقالت :
ــ أحمد . تعال في الغد سنلتقي صاحباً .. تعال إلى مكتبي ..
وفي اليوم التالي دخلت مكتبها وكنت قلقاً جداً عليها ، بادرتها قائلاً :
ماذا قررت ..؟ قدمت إلي كأس شاي وسألتني :
ــ علمت أن هناك مسيرة تأييد للمقاومة .
ــ أجل مسيرة تشييع ، وتأييد .
ــ أرغب بالمشاركة بها .. وتغطية هذا العمل العظيم .. أحمد . مرّ اليوم في ذاكرتي شريط ذكريات لا مدى له ولا يمكن أن يمحى من الذاكرة أبدأ . مضى عليها سنوات وهي ، مازالت في البال .
أتعلم ياصديقي .. ! لقد اشتركت بعشرين كمين وعملية تفجير .. ورافقت جيشنا الباسل في كل خطوة . وهذا العمل العظيم من أجل بلدنا الحبيب أعتز به . تطلعت إليها بإعجاب وقلت لها :
ــ هذه مبادرة رائعة مثل ( هند ) لكن من المحتمل بل ومن المؤكد أن يتصدى العدو للمسيرة وبعدها إطلاق نار ، واعتقال ، وما إلى هناك من أساليب العدو الدنيئة هذا ما أخشاه عليك ( هند ) ! .
ــ لا عليك .. أنا أتوقع كل هذا . لكن أرغب أن أشارك في هذه المسيرة ضد العدو ودعتها لكنها استوقفتني قائلة :
ــ إن كُتبت لي الشهادة أرجو منك الاهتمام ( بإياد ) أوصيك به ، أتمناه أن يكبر ويعلم أن والديه قضيا شهدين في سبيل القضية الفلسطينية العربية ، قل له كن بطلاً ! وتابع تعليمك !
وفي اليوم التالي كانت والدتك في مقدمة مسيرة التشييع تندد بالعدو وتحمل علمنا العربي . فتصدى لها العدو برصاصه وقنابله الدخانية . فكتبت لها الشهادة كما تمنت …
التفت إليّ وهو يمسح دمعة توقفت من غير قصد بعينيه الواسعتين وابتسم قائلاً :
ــ إياد .. أحمد الله . أراك أمامي شاباً متعلماً ومهذباً وصحفياً ناجحاً بإذن الله. كما تمنت والدتك يابني . نهض بقامته الفارعة وشعر رأسه الأبيض وعانقني قبل أن ينصرف ، وشد على يدي وأوصاني أن أتصل به دائماً .
أمسك إياد الصورة وقال :
ــ أمي .. ! شكراً أمي .. ! لأنني فخور بك .. أيتها الشهيدة البطلة .
أمي وأنت ، ومازلت باقية ولن ترحلي .. أنت معي بروحك وأمامي .. أنت شهيدة والشهداء لن يموتوا ..
رامية الملوحي