-1-
تلخيص وقائع الحياة، أو نصوص أدب، نقلها من حيز واسع إلى حيز أضيق، مع المحافظة على مكوناتها جوهرية، والتخلي عن مكوناتها الهامشية، محافظة وتخليا يوافقان مقتضى الحال…
-2-
وعي تلخيص وقائع الحياة ونصوص الكتابة، وضروراته:
تعد ظواهر تلخيص النصوص من الظواهر المنهجية الراسخة في كتابة المؤلفات الأدبية والفكرية والتاريخية، يستند رسوخها وانتشارها المتنامي إلى ضرورات متنوعة النشأة والغايات، منها ضرورتان جديرتان بالتوصيف والتحليل والتقويم.
1، استحالة نقل وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، من دون نصوص تنعكس في مرائيها بتلخيص مناسب.
لقد أدرك ناقلو وقائع الحياة ومستلهمو مكوناتها في نصوص كتاباتهم، ضرورة التلخيص والاختصار منهجا رئيسا في نقلهم واستلهامهم، يمكن توصيفه وتحليله وتقويمه، في مؤلفين مهمين:
أ، مؤلف «الإلياذة» لهوميروس (نحو 850 ق.م).
أراد هوميروس استلهام وقائع حرب تاريخية ذات طوابع أسطورية بين اليونان وطروادة أو إليون، استمرت عشر سنوات، و»يحدد بعض المؤرخين تاريخ نشوب حرب طروادة بعام (1183) قبل الميلاد، أي قبل هوميروس بنحو قرنين من الزمان» . لكنه اقتصر في مؤلفه على عكس وقائع جوهرية من أشهر محدودة في السنة العاشرة الأخيرة من تلك الحرب، مكتفيا بالتلميح والإشارات السريعة إلى ما دون ذلك. دوافعه في منهج عمله تنطلق من حرصه وتركيزه على عناصر تلبي ضرورات عمله الملحمي فنيا وفكريا ووجدانيا.
ب، مؤلف «المختصر في أخبار البشر» لأبي الفداء إسماعيل بن علي الأيوبي (672- 732هـ)، (1273- 1331م).
جاء هذا المؤلف في أربعة أجزاء، عرض فيه أبو الفداء تاريخ العالم منذ بدء الخليقة حتى زمنه في مطالع القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي، في نحو 1086 ست وثمانين وألف صفحة، وقد فعل حسنا عندما اختار لعنوان مؤلفه اسم «المختصر» وثيق الصلة بفعل «التلخيص»، معبرا عن وعيه منهج عمله في صناعة مؤلفه.
هذا الوعي لدى أبي الفداء مؤسس على إدراكه ضرورة التلخيص في نقل وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، في نصوص تنعكس في مرائيها بتلخيص مناسب.
نجد هذا الوعي يتجلى لدى معظم كتاب التاريخ بمناهج متنوعة، مع المحافظة على فعل التلخيص منطلقا أساسا، ومن الأمثلة المعبرة في هذا المضمار مؤلَّف الطبري (ت310هـ- 923م) «تاريخ الأمم والملوك» الذي حدد طوابع جوهرية لمنهج تلخيصه التاريخي بربطه بين المفردات الثلاث في عنوانه: «تاريخ الأمم والملوك».
2، ضرورة تأكيد عناصر النصوص الجوهرية، في عمليات تلخيص تحقق تخليص تلك النصوص من العناصر الهامشية، تكثيفا أو حذفا مناسبا، تأكيدا مفيدا في عمليات التفهم الأمثل لما تعكسه عناصرها الجوهرية، من وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية.
لقد عبّر كتاب كثيرون عن وعيهم العميق لهذه الضرورة، فجعل مثقف بارز هو رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290هـ)، (1801-1873م)، مفردتين دالتين على ذينك التخليص والتلخيص في عنوان كتابه المهم: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» .
لقد أراد الطهطاوي كتابة نصوص تلخص وقائع الحياة الباريسية الفرنسية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، فاستخدم مفهوم «تخليص الإبريز»، رمزا لتلخيص العناصر الجوهرية في مكونات تلك الوقائع، مؤسسا على التشابه بين تخليص الذهب من العناصر الهامشية التي تعلق به في فلزاته، وتلخيص وقائع الحياة بتخلص جواهرها مما يعلق بها من عناصر هامشية، تخليصا يكاد يكون صراطا منهجيا لعمليات تلخيص النصوص، في مقايساتها النسبية العملية غير النهائية بين الطوابع الجوهرية والهامشية لعناصر الوجود والحياة ومكوناتهما.
مصادر ومراجع:
هوميروس،بلا تا.- الإلياذة. ترجمه عن اليونانية أمين سلامة. ج1، مطبوعات كتابي، الكتاب الخامس والثلاثون، القاهرة. (194ص). مقدمة حلمي مراد ص 11.
أبو الفداء، إسماعيل بن علي الأيوبي، – المختصر في أخبار البشر. تحقيق د.محمد زينهم عزب، ويحيى سيد حسين، ج1 (279ص)، ج2(353ص)، ج3(271ص)، ج4(183ص)، دار المعارف القاهرة. (1086ص).
الطهطاوي، رفاعة رافع، 2002- تخليص الإبريز في تلخيص باريز. دار المدى، دمشق، (277ص).
أ.د. راتب سكر