دخل رب الأسرة بيته وقت الظهيرة فسمع صراخ ( أم العيال ) يملأ كل حدب وصوب من المنزل على غير عادة منها … أصابه الهلع ظناً منه أن مكروهاً قد حدث ، ولكنه أدرك للتوّ أن الصراخ على ولديه دون الثالث ، والسبب هو صحيفة نهاية العام الدراسي ( الجلاء ) ، فقد كان الأول أخفق في أن يكون مجموعه تاماً فنقص ست درجات لا غير , وأما الثاني فنقصه عن تمام المجموع درجتان ، والثالث نجا مما أصاب أخويه لأنه أتى بالمجموع تاماً مع بطاقة امتياز .
وكان الصراخ مقروناً بالتوبيخ والتقريع واللوم والتحقيق والبحث عن أسباب عدم الحصول على المجموع تاماً ، والولدان واقفان واجمان خائفان يشعران بعقدة ذنب عظيم لم يقترفاه ، وجرم شائن لا يد لهما فيه .
هذه الحفلة تقام كل سنة عند أخذ الجلاء المدرسي في نهاية العام الدراسي .. ابن أختها ، وبنت أخيها ، وابن عمتها دخلوا كلية الطب .. بسبب الدروس الخصوصية ،فلماذا لا يكون أولادها مثلهم ؟؟ !!
ياسبحان الله … قال في نفسه .. الكل يطمح لأن يكون أولاده أطباء وطبيبات… لنتصور المجتمع كله أطباء فمن أين نأتي بالمهندس ، والصيدلي ، والمحامي ، والمدرّس ، والحدّاد ، والبنّاء ،والنجار ، والخباز والسائق و.. و .. ؟
إن المجتمع كلّ واحد يكمل بعضه بعضاً ، ولا يستغني أحد عن الآخر … ولكن ما فعلته ( أم العيال ) كان دافعه ــ من غير شك ــ الحنان العظيم ، والحب الكبير لأبنائها .. وهذا ماذكّره بقول الشاعر القديم الذي حفظه وهو على مقاعد الدرس منذ سنوات طويلة :
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبّت الريح على بعضهم لامتنعت عينيِ عن الغمضِ
وتذكّر في الوقت نفسه المثل العربي القائل 🙁 حبك الشيء يُعمي ويُصمّ )..
كما عادت به ذاكرته إلى ما كان قرأه حول موضوع التربية السليمة لأبنائنا في المنازل .. وفحواه أن الصواب هو أن نبتعد عن تقريع هؤلاء الأبناء لعدم حصولهم على الدرجة التامة ، وألا نشعرهم بذنب التقصير ، فعقدة الشعور بالذنب تزرع في نفوسهم الخوف ، والخوف ينزع الثقة منها ، والخوف وعدم الثقة لا يمكن لهما أبداً أن يصنعا النجاح في صاحبهما ، ومن ثمّ لا يمكن له أن يكون ذا شأن في الحياة ، أو يقدم عملاً له قيمة على الإطلاق ، مثلما أن الإفراط في إظهار الحب والحنان لا يبني من الأبناء أشخاصاً عصاميين لهم شخصية قوية قادرة على البذل والعطاء .
والأسلوب التربوي السليم هو أن نأخذ بأيدي أبنائنا بالتشجيع لا التقريع ، والتوجيه لا التوبيخ ، ومتابعتهم في المنزل ، وخارج المنزل من غير أن نشعرهم بذلك ، فنحافظ عليهم زهرات يانعة ، فوّاحة ،نضرة ،فيها الخير العميم ، والجمال الذي يبهج الناظرين
د. موفق السراج