كتابة ( أدب الأطفال ) من الفنون الصعبة !
-لماذا ؟
ذلك لأن أبسط الفنون الأدبية على القارئ أصعبها على الكاتب !
وأذكر – هنا- ما قاله توفيق الحكيم ، عندما بدأ يسجل بعض الحكايات للأطفال عام ( 1977) :
-إنّ البساطة أصعب من التعمّق ، وإنه لمن السهل أن أكتب وأتكلم كلاماً عميقاً ، ولكن من الصعب أن أنتقي وأتخيّر الأسلوب السهل الذي يشعر السامع بأني جليس معه ولست معلماً له ، وهذه مشكلتي مع أدب الأطفال (!!!) .
هذا الكلام في النثر فكيف يكون في الشعر؟
كيف يكون في شعر الأطفال ؟
وهو من ألوان الفن الأدبي الصعبة (!!)
لقد بدأ هذا اللون في مصر ، وكان من روّاده الأوائل ( محمد عثمان جلال) ( 1828-1898) الذي قدّم مائتي حكاية منظومة في ديوانه (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ) وقد اقتبس ذلك من ترجمته للافوتين الفرنسي !!
يقول محمد عثمان جلال في مستهل كتابه :
وانظر فتلك روضة المعاني ودوحة المنطق والبيان
نظمت فيها مائتي حكاية وكلها بالحسن في نهاية
فيها إشارات إلى مواعظ نافعة لكل داعٍ حافظ
ضمنتها أمثالها والحكما وربما استعرت قول الحكما
ولا يمكن أن ننسى ( حكاية الثعلب والعنب) التي نظمها جلال وكانت من محفوظاتنا المدرسية في عهد الطلب في المرحلة الابتدائية (!!)
جاءت الحكاية الطريفة في ثلاثة عشر بيتاً منها :
حكاية عن ثعلب قد مرّ تحت العنب
وشاهد العنقود في لون كلون الذهب
والجوع قد أودى به بعد آذان المغرب
فهمّ يبغي أكلةً منه ولو بالتعب
عالج ما أمكنه يطلع فوق الخشب
فراح مثلما أتى وجوفه في لهب
وقال هذا حصرم رأيته في حلب
لكنّ ( أحمد شوقي) كان له رأي مبتكر في أدب الأطفال ، فيه دعوة صادقة في التوجّه إلى النشء ، فهو يقول في مقدّمة ( الشوقيات) عام 1898م :
جربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين ، وفي هذه المجموعة شيء من ذلك ، فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئاً منها .
فيفهمونه لأول وهلة ويأنسون إليه ، ويضحكون من أكثره .
وأنا أستبشر بذلك ، وأتمنى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المستحدثة منظومات قريبة المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم (!) .
وفي الشوقيات خمسون منظومة من الشعر القصصي الذي يُقرأ ويفهم على الرغم من وجود بعض الصعوبات في نصوص لها سمات رمزية، وهذه قصيدة ( سليمان والهدهد ) شاهدة على ذلك ومنها :
وقف الهدهد في با ب سليمان بذلّه
قال يا مولاي كن لي عيشتي صارت مملّة
متّ من حبّة برّ أحدثت في الصدر غلّه
لا مياه النيل ترويها ولا أمواه دجلة
وإذا دامت قليلاً قتلتني شرّ قتله
إن شوقي من الرواد الذي أدركوا أهمية شعر الأطفال ، وقد جرت منظومات الشعرية على اللهوات لما فيها من حكمة وموعظة وهدف وروح مرحة وفكاهة ظريفة ، ومن المؤسف أنه لم يستمرّ في هذا الاتجاه بل عزف عنه فيما بعد (!!) .
* * *
أما الشاعر ابراهيم العزب فقد سار على نهج شوقي ووضع تسعاً وتسعين قصة شعرية (!) وجهها إلى ( نابتة الوطن المحبوب ) بأسلوب الواعظ الجاد الملتزم بتقديم النصائح والإرشادات !!
لكن محمد الهراوي ( 1885 – 1939 ) م كان الأقرب – فيما بعد – إلى ما يناسب الأطفال مع مراعاة مستوياتهم اللغوية والإدراكية فقدّم ( سمير الأطفال للبنين) عام ( 1922) ثم ( سمير الأطفال للبنات ) عام (1923) وعنون ذلك كله بـ :
شعر سهل بالصور والإنشاد والإملاء والمطالعة والحفظ )
ثم أصدر ( محمد الهراوي ) نفسه بعد ذلك في أربعة أجزاء ( من أغاني الطفولة عام ( 1924) وربما يتجلّى ( محمد الهراوي ) في الأوائل الذين توجّهوا في كتابة شعر الأطفال بما اختاره من أخفّ الأوزان وأيسرها حفظاً وأقربها إلى التعليم ! بل هو لم يترك موضوعاً في الحياة إلا طرقه :
مثل ( المنظومات الدينية) و( القصائد الوطنية) و( منظومات العلاقات الأسرية ) و( في المدرسة ) و(الأعياد ) و( الأغاني ) و( المخترعات ) و( الأخلاق العامة ) !!!
يقول الهراوي في منظومة الحلقة الدوّارة :
دار الصفّ لفّوا لفّوا
لفّوا الأيدي لفوا القيد
قيد الصحب هو في القلب … ألخ
* * *
وللشاعر معروف الرصافي ( 1875- 1945) مقطوعات شعرية للأطفال أراد بها أن يوجه ويعلم .. وقد سارت هذه المقطوعات على ألسنة الناشئين والأطفال ، ولم يكن هدف الرصافي إلاّ أن يقدّم رسالته الشعرية إلى المدارس وأن يلقّن حبّ الوطن ويرسخ القيم .
يقول :
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضره
كيف نمت من بذرة وكيف صارت شجره
فانظر وقل من ذا الذي يخرج منها الثمره
* * *
لقد ظهرت أسماء عديدة لشعراء قصص الأطفال وحكاياتهم .
منها ما هو مستمد من التراث العربي أو مقتبس منه، إلى جانب ما هو مترجم !!
كانت تجاربهم متفاوتة ، وللأسف … لا يزال هناك استسهال لهذا النوع من الأدب، لا يزال هناك اختلاط أوراق وادّعاء في الفراغ .. لا يزال هناك بُعدٌ عن الواقع بعد عن الفنّ والإبداع (!!) .
ملاحظة مهمة أخيراً :
لا يمكن إغفال تجربة ( كامل كيلاني ) الذي طغت القصة الطفلية على أعماله وآثاره ، وكذلك ( الصاوي محمد ) و( علي عبد العظيم ) .
وفي سورية لا يمكن نسيان تجربة ( نصرة سعيد )وهو من الرواد مع ( أنور سلطان ) و( عبد الكريم الحيدري) وكلهم كانوا في بدايات القرن الماضي ثم تلاهم ( سليمان العيسى ) من بعد ، ولتجربته مكانة خاصة وفريدة ، لا تغيب عن بال الدارسين والمهتمين بأدب الأطفال !!