نشرت الشاعرة سعاد محمد دراسة للناقد جمال القيسي حول قصيدتها (رؤى قمرية) وأعقبتها بمقتطف من القصيدة:
منذ مدة ليست بالقصيرة انتبه النقاد او المعنيون بالأدب الى قضية العلاقة المعقدة بين القارئ والنص وبالذات الحداثوي، أن تنتقل الى عوالم مختلفة وقصية ذلك أثر عظيم يفعله النص من خلال التأويل، لكن من يفتح تلك العوالم؟ وماهي وسيلة الانتقال اليها، مع ان العملية هي ضمن حيّز المخيال، وكل إنجاز مادي مشيد إنسانيًا ، ينطلق من حلم او محاولة لتأويل، وقبل أن نستغرق في الحديث عن الانفتاح على العوالم القصية، لابد أن نحدد قضية المعنى وماذا يراد بها، إذ لا قيمة لأي شيء بدون معنى مشروط بتلقيه في الوعي، المعنى هنا كل نمط من الارتباط المتبادل داخل النص أو خارجه.
هل بالإمكان أن نكون هنا الان وفي الماضي بذات الوقت ؟، في الواقع هذا أمر مستحيل، لكنه في عوالم النص الأدبي كل شيء جائز، أنه بعد من الرؤية المغايرة للواقع، نوع من التعويم للزمن، اعادة صياغة للواقع بمعنى جديد، مشبوب بالأمنيات، أنطلاق من اللاشعور ،لكل مكبوت، واعتراض على اجحاف الوقائع الخارجية، نحن نتكلم عن المعنى المتحرر من الظرفية، نتكلم عن تموقعنا في عالم مغاير. ومختلف عن عالمنا المؤلم بكل حال.
سنبحر مع نص الشاعرة ذات المقام السامي في الادب (سعاد محمد ) في نصها الذي يجمع بين العجائبية والتخطي الزمني، معظمنا مر بقصة حب غير متحققة تدور أحداثها في دواخلنا، نعشق شخص ما دون أن نبحث عن السبب، نمرغ كبرياءنا، لكن في نفسنا، لانتمكن من البوح، نعلق وقائع هذا الحب على جدران مشاعرنا الخفية، هي عميقة و سحيقة تلك اللحظات مع أنها مشرقة، لأنها تتمثل بكل طاقتها في المخيال إنه تاريخنا الحقيقي المسكوت عنه،
منذ الصباح وانا اخرج من حلقة… وادخل اخرى سواء في البيت او العمل او حلقات الأصدقاء، وهذا ربما يحدث كل يوم، أتلمس في هذا العماء المتراكم عن بصيص أمل عن سم إبرة لأنفذ منه لكي أبرر نفسي، لكن الإحباط يشيع كل أمل وفجأة قرأت هذا المقطع :
« كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ
لم أسعَ إليهِ, هو حفظَني, وسعى إليَّ
كانَ يكفي أن أتبعَ مشيمةَ التأويلِ لأعرفَ أنّكَ (هو) «
ليقل لي أحد ، كيف لاتتنشط دورتنا الدموية، عند قراءة مثل هذ الكلام، وكيف لايهتز جهازنا التأويلي، من هذا التراكم لتشكل الوعي ، المذيب للأمكنة والأزمنة، انها سعاد محمد، صانعة شاعرية قل نظيرها ، فهي تشحن الملفوظات بطاقة بلاغية لأقصى مايمكن حتى تتقطع انفاسك تأويلياً، تضيع وانت تنتقل الى فسحة مفرطة الحلاوة مع أن حزنها طاغٍ، يحدث نوع من التماثل بينك وبين هذه اللحظات اللازمنية هذا لايعني انه لايوجد تاريخ، بل العكس انه تقويم خاص معني بالمشاعر، تورخة الالم والتأوه، والمشاعر الحقيقية هي اثمن ما في الحياة، هنا تصنع خيطاً رفيعًا من التاريخ الشخصي بالكاد تمسكه، لكنه متين القوام « « كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ « هي روح أزلية تشطب الفواصل الزمنية، هي في اللحظة الراهنة مترابطة مع الماضي، انشغال صفته الديمومة، المؤلم في الامر انها واجهت كل هذا دون ارادتها « لم أسع اليه « مع من تتكلم ؟ ربما شخص او قدر او كيان اخر يقف في الظل، وفي هذا الغموض والتيه التأويلي يكمن جمال الادب، بل المبرر الوحيد الذي يشفع لنا كل مكابداتنا ،كيف لا ؟ وهي تكسب الريح وعيًا، أي سمو هذا ! انها مرتبة ما بعد السمو:
« اسمكَ..
تواردُ أفكارِ الغدرانِ..
مع رقيمِ مُحافظٍ خطفَ طفولتي
هو غرضُ الرّيحِ..
حينَ تذهبُ مع المدى برحلةِ صيد..
اسمكَ الحلوى الكاذبةُ الّتي يُمنّي بها التاريخُ دمَ المقهورين! «
اي صلصال هذا ؟ الذي صنع منه الرقيم، واي لغة احتوى؟ بل أي تعويذة كتبت فيه ؟
في مقطع يسبقه، ليس بيدي حيلة في التقافز بين المقاطع ، انها مشيمة التأويل كما قالت الساحرة (سعاد محمد ):
« اسمُكَ الفارقُ بين التلميحِ والتصريحِ
الفارقُ الّذي يلعنُ اللونَ الرّمادي
اسمُكَ..
دع اسمكَ لي
أنا أدرى منْكَ بِتلفّظِهِ
دع لي نعمةَ عدِّ بلابلِهِ «
هنا تمسك بسر التأويل، وهي ما يسمى (الما بين ) ونقصد هنا الفعل الذي يقع بين واقعية النص وذاتية القارئ ،هذا بعد أن نأخذ بعين الاعتبار أن للعمل الأدبي قطبين هما القطب الفني والقطب الجمالي، القطب الفني هو نص المؤلف والقطب الجمالي هو التحقق الذي ينجزه القارئ، ونرجع الى ال (مابين) أي الفعل الديناميكي عندما يمر القارئ بمنظورات متنوعة يعرضها النص ونماذج مختلفة بعضها ببعض،هذا الفعل يحرك العمل ويحرك نفسه أيضاً، ففي منطقة (الما مبين) يتولد فائض المعنى، وبين التلميح والتصريح تكمن حقيقة الامر، وهي منطقة مشاعر خالصة في ماهيتها انها حياة الروح.
___
« حينَ شربتُ الأزمانَ.. رأيتُكَ
أنا الميّتةُ في حادثِ انبهارٍ
تنقرُني العنقاءُ..
فأفيقُ كرؤىً قمريّةً
لكنْ, لمْ يزايلْني الحنينُ «
في هذا المقطع تأخذنا الشاعرة الى عالمها العجائبي ، تشعر أنك في مكان سعته الكون لكنه في ذات الوقت متوحد معك لدرجة أنك تتشارك معه بنبض واحد، طبعًا ان كان ثمة حياة ، في هذا الحلم المخلق ، هذه الفانتازيا العجيبة،،لحظة فقط لامتلك زمام أمري كي اصف ، هي جوليت.. العاشقة التي شربت السم، لكنه سم السنين عند الشاعرة. وهي تمارس عملية الانزياح والإحالة الخفية بلاغيًا ،وبنفس الوقت هي
( white snow) النائمة بفعل السحر، لانها أميرة لايليق بايقظها الا الطائر الأسطوري. العنقاء وهي إشارة للخلود ،،لكن نهوضا يكتسي الشفافية والسرمدية ،،يقظة روح خالدة حيزها الأحلام، لكنها لازالت تحتفظ بالذكريات،،ذكريات من تحب،لله درك شاعرتنا الكبيرة! سيأتي زمن لاحق سيتغنى بشعرك .
جمال قيسي / بغداد
رؤى قمريّة..
———–
كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ
لم أسعَ إليهِ, هو حفظَني, وسعى إليَّ
كانَ يكفي أن أتبعَ مشيمةَ التأويلِ لأعرفَ أنّكَ (هو)
(هو): النابتُ في أبهر القصيدة
رأيتُكَ كمنطوقِ لوحةٍ تشكيليّةٍ
كحرارةِ المشاعرِ الغامضة
رأيتُكَ..
الأنّةَ المُضمرةَ في قلبِ لغتي
شهاباً جلياً..
والحجّةُ على الممسوسِ بالرؤى!..
اسمُكَ الفارقُ بين التلميحِ والتصريحِ
الفارقُ الّذي يلعنُ اللونَ الرّمادي
اسمُكَ..
دع اسمكَ لي
أنا أدرى منْكَ بِتلفّظِهِ
دع لي نعمةَ عدِّ بلابلِهِ
اسمكَ..
تواردُ أفكارِ الغدرانِ..
مع رقيمِ مُحافظٍ خطفَ طفولتي
هو غرضُ الرّيحِ..
حينَ تذهبُ مع المدى برحلةِ صيد..
اسمكَ الحلوى الكاذبةُ الّتي يُمنّي بها التاريخُ دمَ المقهورين!
حينَ شربتُ الأزمانَ.. رأيتُكَ
أنا الميّتةُ في حادثِ انبهارٍ
تنقرُني العنقاءُ..
فأفيقُ كرؤىً قمريّةً
لكنْ, لمْ يزايلْني الحنينُ
يا حبّ..!
أرني عرضَ منكبيكَ يا حبُّ!!
لأقيسَ كم موتاً بقي في عمري؟
فلمْ أستشفَّ من نواياكَ إلّا الزّناد
امتحنّا يا حبُّ امتحنّا..!!
وزوّر علاماتِنا لنعيدَ!
وصوّرنا ونحن صرعى العاطفة!
لنضحكَ علينا حين يغشانا اليقين
كعصفورٍ تبرّعَ ممتنّاً بكلِّ ريشهِ للعاصفة
وما زالَ يعتقدُ أنّهُ سيّدُ الرّيح..
إنْ اختلفَ الرواةُ يا حبّ
فأنتَ قاتلي الحبيب..
للشاعرة سعاد محمد