عن قصيدة النثر المفروض أن تتم المضاهاة بين نصوص متكافئة

لكل فن، والشعر أحد أشكاله، ضوابط وقواعد وأدوات لابد من امتلاكها وإتقانها، أما من يجرؤ على ممارسة طقوس الشعر، متكئاً على موهبة مزعومة، فلابد أن يسقط، مهما قدم له من دعم أيديولوجي أو شللي أو إعلامي….‏
وضوابط الشعر وقواعده وأدواته ليست معطىً ماهوياً، أي أنها ليست أزلية أو نهائية أو ثابتة ثباتاً مطلقاً، بحيث تستعصي على التطور والتبدل، بما يتساوق مع الإنجازات الإنسانية في المجالات كافة، وبما ينسجم مع التفاعل الحضاري مع الشعوب والأمم واللغات الأخرى.. وإن كانت ثابتة ثباتاً نسبياً، يكفي لاستقرار بعض الانتظامات في الأذهان، هذه الانتظامات التي تشكل المرجعية للنقد والتذوق وإصدار الأحكام.‏
والثبات النسبي يعني أن ضوابط الشعر وقواعده تتطور ببطء شديد، دون طفرات أو قفزات في الهواء… والدليل على ذلك أننا نجد إرهاصات الأشكال الجديدة في رحم الأشكال القديمة، أشبه ما تكون ببذور تنتظر الظروف المناسبة والبيئة الملائمة لتنمو وتتفتح… أما من يقول غير ذلك، ويزعم بأن الأشكال الجديدة إنما هي دفقة عبقرية مفاجئة، جادت بها قريحة فلان أو علان من الشعراء، وأنها ما كانت لتظهر لولا القطيعة المطلقة مع ما استقر في الأذهان… فإنما يروّج لنمط شعري معين، ويعده المثال المفارق، والنموذج الأقصى، ويزدري الأنماط التي سبقته، أو يظن (في أحسن الحالات) بأنها قد استنفدت أغراضها، وباتت منتهية الصلاحية فنياً، وهذا ظن خاطئ تماماً، لأن الأشكال الجديدة لا تلغي الأشكال القديمة، وإنما تتجاور معها في إطار من التنافس الفني، والشاعر الحقيقي هو الذي يستطيع أن يبلغ بالشكل الذي يكتب فيه أقصى ما يمكن. والمتلقي يستمتع بالنص الجيد، بغض النظر عن شكل هذا النص.‏
وعموماً، فإن القول بالثبات المطلق يعدّ أصولية فنية سرعان ما يتجاوزها التاريخ، والقول بالتبدل المستمر، والتجريب الدائم مع كل شاعر، بل مع كل قصيدة، يعد نوعاً من الفوضوية والعدمية، وتهرباً من كل ما يحقق الإيقاع ويؤسس للانتظام.‏
الأصوليون من الشعراء والنقاد أخرجوا أنفسهم من التاريخ حين استغرقوا فيه، والفوضويون أخرجوا أنفسهم من التاريخ، أيضا ،ً حين أسقطوا إمكانية الاستفادة من التراكم التقني والفني والنقدي…، وأدخلوا أنفسهم وقراءهم في دوامة التجريب المستمر، حتى لكأن التجريب هدف بحد ذاته؟؟‍‍!‏
وأي حوار بين الفريقين كان يتحول إلى حوار طرشان في أغلب الحالات، كل فريق فرح بما ينتجه وبما يؤمن به. ولا يكاد المرء يعثر على نتيجة مجدية من تلك الحوارات، أو السجالات، أو المعارك الأدبية (وقد أحسن من أطلق على حوارات الطرشان تلك اسم المعارك الأدبية). وكأي معركة لابد من منتصر ومهزوم، وقوي يفرض آراءه على الضعيف… وإن كانت تلك المعارك، والحق يقال، ليست شراً كلها، فقد فتحت الأعين والأذهان على زوايا لم تكن معروفة من قبل، وأعطت الفرصة، من حيث لا تريد، للرأي الآخر ليقول كلمته.‏
وآخر المعارك، والتي مازالت مشتعلة منذ عقود، هي المعركة حول مشروعية ما يسمى بقصيدة النثر، فما زال (شعراء) قصيدة النثر يكافحون من أجل الاعتراف بهم، ويحشدون في سبيل ذلك عتاداً نقدياً، بعضه يستند إلى النقد العربي، وإلى الذائقة العربية، وإلى بعض الإرهاصات عند نفر من المتصوفة… وأكثره يستند إلى النقد الغربي موطن نشوء (قصيدة النثر).‏
ومازال الفريق الآخر يساجل هؤلاء مستخدماً نقداً عربياً في معظم الحالات، وعتاداً نقدياً غربياً في حالات نادرة.. والغالب على هؤلاء أنهم يخلطون المضامين بالأشكال عن عمد، في سبيل توجيه الاتهام لخصومهم بالمروق….‏ولا يتورع الفريقان عن مضاهاة نصوص راقية من الشكل الذي يدافعون عنه بنصوص شديدة الرداءة من الشكل الآخر في عملية تدليس خبيثة؛ في حين كان المفروض أن تتم المضاهاة بين نصوص متكافئة من حيث الجودة.
وأزعم بأن الفريقين (المتحاربين) قد أضاعوا وقتاً ثميناً، وأراقوا حبراً غزيراً في معركة وهمية زائفة… فلا بيانات (شعراء قصيدة النثر) قادرة على انتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون… ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمس وجودهم. ولو استفاد (شعراء قصيدة النثر) من تجارب بعض خصومهم، أعني شعراء التفعيلة، لاستراحوا وأراحوا.. فلم يكسب (الشعر الحر) الجولة عن طريق البيانات أو التنظير المحض، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات مواصفات فنية عالية المستوى، تجاوبت مع نبض الناس، ومع احتياجاتهم الفنية، والذهنية والاجتماعية والوطنية والقومية… فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعر الحقيقي للمتلقين.‏
ولو استطاع (شعراء قصيدة النثر) أن ينتجوا نصوصاً مهمة فنياً، لربحوا بعض الجولات في معركتهم… لكن مشكلة هؤلاء، إلى الآن على الأقل، أنهم قد بددوا جهودهم، وأراقوا طاقاتهم، في التنظير، وتدبيج البيانات، دون أن يتزامن ذلك مع إنتاج نصوص ذات قيمة فنية، بغض النظر عن نصوص مبعثرة زمانياً، استنفد فيها أصحابها طاقتهم، ثم سكتوا، لأنهم لم يعودوا قادرين على تجاوزها أو إنتاج نصوص توازيها، ولم يستطع سواهم أن يتجاوزها .. مما أعطى الانطباع بأن (قصيدة النثر) قد قالت كلمتها على لسان بعض الأفراد، ومشت، دون أن تستطيع خلق ظاهرة شعرية جديدة قابلة للحياة.‏
أما من يقول بأن (قصيدة النثر) ما زالت في طور التخلّق، ومازالت في طور التأسيس الفني، ولم تستقر ضوابطها وقواعدها وأدواتها بعد…. فإننا نقبل قوله بحذر شديد، نظراً لما فيه من وجاهة منطقية… ولكننا نقول: إن المخاض قد طال.. وهو إلى الآن أشبه بمخاض ذلك الجبل المشهور.‏
لابد لي في النهاية من الاعتراف بأن أشد أعداء هذا النمط من القول الشعري هم المتطفلون على الشعر (وهم الأكثر عدداً) من أصحاب المواهب الرخوة، حين استوطؤوا حائط الشعر، وهم لا يملكون أدنى مقوماته، مما أدى إلي الإساءة للشعر عموما ولقصيدة النثر خصوصا .

محمد راتب الحلاق

 

المزيد...
آخر الأخبار