البيت يا بنيّ مثل القلب، إن كان مُلوّثاً تهجره البركة، فاحرص على أن يكون بيتك مرآةً لقلبك..
ـ وماذا عليّ أن أفعل لأبرّ بوصيتك يا معلمي..؟
سأله، وهو يحزم حقائب الروح بنيّة الرحيل.
ناوله معلمه حفنةً من الحصى، وهو يقول:
ـ ضع هذه فوق باب مضافتك، ولا تقف لاستقبال إلّا من تُضيء عند دخوله عليك.
البلدة في هرج ومرج، والجميع راغب بزيارة العائد الميمون بعد طول غياب، وصل الوجهاء قبل غيرهم، ففي كل عرس لهم قرص، والجميع يقرّ لهم بحقّ الصدارة.. دخلوا عليه مُهلّلين مرحبين، غير أنه استقبلهم وهو على أريكته جالس..
نبقت أعينهم، تصحّرت أزقة أرواحهم، فهم ما اعتادوا أبداً أن يُستقبلوا بهذا البرود، مضغ كل منهم هذيانات كبره الطعين، وجلسوا واجمين، مذهولين.. وكأنما على رؤوسهم الطير.. وفجأةً.. عبقت المضافة برائحة بريّة، سبقت دخول راعي أغنامهم، هبّ المضيف واقفاً، واستقبله بحفاوة، قضت على ما تبقى من كبريائهم.. استعر الغضب بين جوانحهم، فنهضوا جميعاً، وقد أزمعوا على المغادرة، لكنْ ليس قبل أن ينفثوا في وجه مضيفهم هباب عتبهم المحموم:
(كيف تقفُ لراعي أغنامنا، ولا تقف لنا..؟ يبدو أن غربتك قد أنستك الأصول، وضيّعت مقامات الناس في نفسك.. لكننا لن نغفر لك سوء صنيعك)
ابتسم بدماثة، وقال بما يُشبه الهمس:
ـ إنها وصية معلمي.
ـ أيّ معلم هذا الذي يوصيك أن تحترم الراعي أكثر من كبار بلدتك..؟!
برزانة الواثق روى لهم حكاية حفنة الحصى التي زوّده بها معلمه قبل عودته، وأشار إلى موقعها، وهو يقول:
ـ لم تومض حصاة واحدة عند دخولكم عليّ، لكنها أضاءت جميعها عند وصول الراعي.
عصف بهم السخط، وتعالى صراخهم:
ـ هذا غير معقول.. فلا يجوز ألّا تضيء حجارتك الخرقاء لنا، بينما تضيء لراعي أغنامنا..
ـ ما رأيكم إذن أن نُجرّب من جديد..؟
انتفخت صدورهم كبراً، وخرجوا من المضافة مُدجّجين بثقتهم بعلوّ مكانتهم، ثم عاودوا الدخول واحداً واحداً، وكمشة الحصى لاتزال واجمةً، صامتةً.. لم تنبس ببنت لمعة، أو ابن وميض، ولمّا دخل الراعي أشرقت وجوهها، وفاح أريج نورها.. تهدّلت أكتافهم خزياً، تلعثمت أرواحهم حياءً، وعلى المقاعد تهاوت جثثهم مطعونةً بالخواء.
عانق المضيف الراعي كما يليق به، قرّب مجلسه، وطلب إليه أن يُحدّث القوم عن نفسه، عن حاجاته كيف يقضيها، علّ دبابيرهم تكنّ، وأشواك أرواحهم تلين..
تبسّم الرجل بسخاء، ثم قال:
ـ أعتذر منكم، فأنا لا أتقن فنون الكلام، ولا أحسن عمل أي شيء سوى رعي الأغنام، لذلك أنا أحبها، أحرص عليها، فهي أمانة في عنقي، أعزف لها، وهي تقضم العشب بشهية، وعندما تشبع، وتبدأ باللعب، يفيض قلبي غبطةً، فأجدني أغنّي، وأعيد كلّ ما أحفظه من الأغاني على مسامعها.. لكنّ حبي لها، لا يمنعني من معاقبتها إن هي أخطأت، فإذا تسللت أية غنمة إلى أرض أحدهم في غفلة منّي، أحلبها على الأرض قبل أن أسحبها خارج المكان المُحرّم، كي لا تحمل في ضرعها الحرام لصاحبها.
فغرت الأفواه دهشةً، وفوق باب المضافة، أينعت أعين الحصى امتناناً.
توفيقة خضور