كان لنا في المدرسة الابتدائية فترتان للدوام
فترة صباحية.. وفترة بعد الظهر..
وكان هناك ست حصص متكاملة..
الدوام الصباحي يبدأ في الثامنة، ومابين الدرس والدرس فرصة..
فرصة هي فسحة واستراحة وتجديد.
ولم يكن هناك تقسيم للمواد الدرسية، فالمعلم الذي يأخذ صفاً يعلّم المواد كلها، عدا الرياضة!
المعلم ذو إمكانات ومواهب لاتحصى..
المعلم هو بالدرجة الأولى مربّ.
المعلم يحمل شهادة وخبرة..
المعلم يتقن الخط ويعرف أسراره وقواعده وأصوله.
المعلم يتقن الرسم. ويجيد العزف على آلة موسيقية
المعلم الذي كان في مدرستنا هو موسوعة..
موسوعة تسعى على قدمين.
موسوعة علمية تربوية وعن معارفه لاتسأل!
المعلم يجمع مايجمع بشغف وحب وإتقان..
أين ذلك من معلّمي هذه الأيام الذين وجدوا أسهل الطرق وأقصر السبل وحازوا أقل الدرجات في الشهادات ونالوا أقل التحصيل ثم.. ثم بعد ذلك صاروا معلمين!!
و.. أذكر فيما أذكر معلّمنا الأول.. الأستاذ (محمد المازوني) الذي كان مشعلاً متوهجاً، وكان قدوة حسنة بل نبراساً مضيئاً وهاجاً!! بل رمزاً من رموز التربية في فضاء التلاميذ الصغار الذين يدخلون المدرسة لأول مرة!!
معلمنا كان (خطاطاً)!
السبورة الكبيرة تشهد سطوره المتوازنة..
السبورة الكبيرة تحنو على حروفه وكلماته التي يسوقها بليونة ورشاقة وانسيابية آسرة.
السبورة الكبيرة تحتضن بطاقاته الورقية الملونة ووسائله الفنية التي كان يعلقها هنا وهناك.
لادرس من دون لوحات ورسوم وبطاقات..
لادرس من دون تمهيد مثير ومواقف وحكايات..
لادرس من دون فواصل منشطة وألعاب وتمثيليات.
الدرس الواحد أو الحصة الواحدة كانت مشغولة حافلة من بدايتها حتى نهايتها.
لم يكن هناك وقت ضائع أو زمن مستقطع..
لم يكن هناك تهاون أو استرخاء أو تثاؤب أو ملل.
الدرس بدقائقه يمرّ سريعاً سريعاً، وكل دقيقة هي ثروة علينا أن نستغلها.. والوقت من ذهب. لا من كلام فارغ أو ثرثرة ضائعة.
الوقت سيف مصلت.. والتلاميذ في حركة دائبة ونشاط مستمر.. والصف خلية نحل.. والمدرسة كلها ورشة علم وعمل ومنافسة واجتهاد. المدرسة كلها سعي حثيث إلى دروب المعرفة والقيم والأخلاق. والتمسك براية العلم والفضيلة.
والمعلمون مربون.. آباء حقيقيون. آباء مسؤولون عن جيل.. عن وطن.. عن أمة.
كان الأستاذ (محمد المازوني) صورة متميزة.. كان مثالاً يحتذى..
والتعليم مهنة واحتراف.. التعليم خبرة ومعرفة تراكمية.
التعليم نهوض وتقدم لاجمود ولاسكون ولاتفلّت أو تعنت أو قسوة أو غلطة أو ادّعاء في الفراغ (!!)
***
وعلى الرغم من هذه السنين الطويلة والأحوال المتقلبة مازال وجهه الأبرز من بين الوجوه.. سبحان الله.. دائماً يطلّ بصورته وحركاته وحماسته واندفاعه في حب هذه المهنة الشريفة الراقية السامية!
كاد المعلم أن يكون رسولاً!
كان معلمنا الأول إنساناً فاضلاً.. صادقاً وفياً، عفّ اللسان رضي الخلق. طيب المعشر، لم أره يوماً غاضباً أو حاقداً، كان محباً للجميع. محباً لعمله وأهله وناسه يريد الخير ويسعى إلى الخير، ويتمثل الخير.
كأنما لم يعرف في حياته إلا أن يكون هو هو..
المعلم الذي وهب نفسه للعلم..
المعلم الذي أخلص لمهنته وتفانى في تحصيل المعرفة ونشرها..
معلم الذي قضى حياته وأمضى عمره وهو يبحث ويبحث و.. يعلّم.
***
درس القراءة كان درس المتعة.. والفائدة..
درس القراءة هو درس المرح والانطلاق..
درس القراءة هو درس التعلّم والحرية.
وهذه الحروف التي سطرها أمامنا تركض وتركض ونحن نلاحقها.
نحن الأطفال الصغار نتابع منحنيات الضوء في تعاريجها. حرف الدال حرف آسر.. حرف الدال يحني رأسه بتواضع لكنه يحبّ المشاركة، يحب التعاون، يحب أن يستقبل بقية الحروف.
يحب أن يستضيف من يحبه أيضاً!!
لحرف الدال سقف.. سقف منخفض.. وللألف سقف عال. ماذا سيكون إن اجتمع الحرفان الدال والألف؟!
تنطلق الحناجر وقد اكتشفت تواصل الحرفين.. ترتفع الأصوات العذبة.. عصافير مغرّدة، وصيحات من دهشة وإعجاب.. – دا .. دا.. دا..
ها هنا دروب جديدة.
ها هنا دروب مفتوحة على العالم.
ها هنا نوافذ وأبواب.. ها هنا شرفات وإطلالات.. و.. القلوب الصغيرة بدأت مسيرتها في الحياة.
و.. الأستاذ (محمد المازوني) بحكاياته وإبداعاته يسجل النقاط المضيئة التي أحرزها من كراسة الأيام..
الأستاذ المتفاني يسجّل تقدمه في المهنة التي أحبها. وأخلص لها. وأفنى عمره ونور عينيه من أجلها.
أية صورة أخاذة هي صورة المعلم..
أية صورة بهية ظاهرة عليه هي صورة الرجل المتفاني من أجل النشء الصغار.. على دروب الحياة.. والعطاء.. والبذل.. والفداء يالها من صورة!!