(فتاة عادية ) عنوان ملتبس رغم بساطته، لأنها فتاة غير عادية فهي تتمرد على أسرتها ذات الثراء لتنحو باتجاه مغاير للتقاليد الأسرية والطبقية ,ولتنتمي فكريا لقوى اليسار الأمريكي ,تنتقد تستهجن وتناضل على الجبهة الأخرى للقوى التي تتحكم بالسلطة الأمريكية .
مدخل لا بد منه
قدم الكاتب التقدمي الأمريكي آرثر ميللر أول مسرحية له بعنوان (الرجل الذي أوتي الحظ كله) في برودواي عام 1944,ثم قفز إلى عالم الشهرة والأضواء مع زملائه الكتاب الكبار يوجين أونيل وتنسي وليامز ,وقد شكل هؤلاء الكتاب الثلاثة الرافعة الثقافية والفكرية والمسرحية في أمريكا والعالم ,فهم أعمدة المسرح الأمريكي في القرن العشرين ,وعندما قدم مسرحيته (كلهم أبنائي) حققت نجاحاً باهراً وحصلت على جائزة نقاد الدراما في نيويورك عام 1947,وهكذا بهرت وجذبت المخرج السينمائي والمسرحي العالمي (إيليا كازان )الذي أخرج له مسرحية (وفاة بائع جوال) وحصلت على جائزة النقاد وجائزة (بوليتزر)عام 1949. كما نشر عام 1967مجموعة قصصية بعنوان (لم أعد في حاجة إليك ),وكتب الشعر ومارس الإخراج المسرحي وكتابة السيناريو السينمائي ,ونشر السيرة الذاتية في (600)صفحة عام 1987 بعنوان (انعطفات الزمن).
ورغم الضجيج الإعلامي الذي رافقه ككاتب مسرحي ظهر بقوة في المشهد الثقافي والسياسي ,كمعارض شرس للسياسة العدوانية الأمريكية فخضع أمام لجنة (مكارثي)طبعاً وتم استجوابه مع مجموعة من الفنانين والكتاب المبدعين ,والتهمة هي ممارسة نشاط معادِ لأمريكا ,مما اضطره لمغادرة الولايات المتحدة الأمريكية ,والإقامة في منفاه الاختياري بريطانيا .وظهر وسط ضجيج إعلامي هائل عندما تزوج فاتنة السينما العالمية النجمة (مارلين مونرو ) وبعدها طلقها وكان انتحارها التراجيدي ليقدم مسرحية (بعد السقوط ). كما أننا لن ننسى مواقفه الحازمة والمعارضة للحرب في فيتنام ,وقام بإخراج مسرحية (وفاة بائع جوال) في الصين ,واحتفلوا في (الوست إند ) بعيد ميلاده الثمانين بتقديم (مشهد من الجسر )و (الزجاج المكسور) ,وكانت الصحافة والإعلام الفضائي يفدون إلى منزله وهو يعيش مع زوجته الثالثة المصورة (إنجي موراث),وفي عام 1992فاجأ عالم الأدب برواية فتاة عادية هي رواية بسيطة ورشيقة تقرؤها بساعات قليلة وذلك لوضوحها الإنساني والأدبي ,رواية مكثفة بأحداثها وإيقاعها الرائع ,في السبعينات من القرن الماضي تستيقظ (جانيس) من نومها في شقتها في نيويورك لتصعق بزوجها الثاني (تشارلز) قد مات ,هو مدخل روائي صاخب بالموت الصامت ,رحيل مباغت , فجأة يرحل وهو الأعمى ,وتبدأ باستعراض شريط سينمائي لحياتها منذ الثلاثينات في القرن العشرين في نيويورك ,هي سنوات عاصفة سياسياً واقتصادياً ,(جانيس ) تنحدر من أسرة يهودية أتت من بولندا مهاجرة مع أسرتها ,تمردت على تطلعاتها البرجوازية لتقتحم عالم (مانهاتن ) الراديكالية ,تتزوج (سام فتنك ) تاجر الكتب الشيوعي ,لتشاركه مغامرته الفكرية وحماقته الحياتية ,سام مهووس دائماً لمحاربة الفاشية ,مشغول عنها كزوجة و إنسانة لها ما لها ,وأثناء ممارستها للفن التشكيلي تقيم علاقة مع أستاذ تاريخ الفن , وزوجها يساكنها كشفقه والمنزل كفندق ,وينتهي فجأة , وبعد سنوات تلتقي (تشارلز) الموسيقي الأعمى ,تعيش معه قصة حب بكل ألقها وتوهجها ,لأنه ببصيرته يخترق أسوارها الحصينة الداخلية ليكتشف خارطة جسدها وجهها بحواسه , هناك تقاطع بشكل كبير بين حكاية جانيس مع سيرته الذاتية للكاتب آرثر ميللر , لأنه ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من بولندا , حتى خيار البطلة جانيس الانتماء لليسار الأمريكي هو خياره الفكري والسياسي وهو الذي ناضل طويلاً في صفوف اليسار الأمريكي , حتى شقيق البطلة (تاجر العقارات ) واستغلاله للظروف السيئة للناس للوصول للثراء الفاحش , للكاتب آرثر ميللر أخ مارس هذه المهنة بكل جشع فاحش وأصبح رجل أعمالا .
نعم من حق الكاتب أن يقدم لنا بعضاً من خفايا علاقاته الأسرية ,ليبني عالماً يماثله بالقسوة والجشع ,فتطل من الصفحات شراهة هؤلاء السماسرة ,وتعيش لحظات الوفاء النادر لقضايا الناس البسطاء ,والتنديد بحرب ظالمة على شعب بسيط ومسكين (فيتنام) وكما حدث في العراق وأفغانستان وما يحدث اليوم على أرضنا .
فتاة عادية هي دعوة للفتيات في أي زمان أو مكان أن يتمردن على واقع فاسد وظالم ملطخ بالعار ,وينحزن للعدالة والحق ليصبحن فتيات عاديات .
صرح الكاتب آرثر ميللر قائلاً : إن قصص أرنست هيمنجواي القصيرة أفضل من كل رواياته الطويلة ,ويبدو أن نقده الحاد للتجربة الروائية لهيمنجواي ,هو ما دفعه لأن ينجز رواية تقارب القصة القصيرة , هي رواية محكمة بخيوطها الدرامية المكثفة ,لامكان فيها للحشو وللثرثرة , رواية تستعرض مشهداً هاماً وخصباً من فترة حرجة من التاريخ الأمريكي . وكأنه تمثل قول العرب ( خير الكلام ما قل ودل ) .