مقالة قصصية .. (ربّما)

عندما وصل غرام الذهب إثر قفزاته المسعورة إلى مئة ألف ليرة، طرتُ من فوري إلى خزانتي الحديدية العتيقة، وأفرجتُ عن صندوق مجوهراتي الذي قضى مدة سجنه دون أن يخدش الحياء العام برنين أو استعراض، وقد آن الأوان لأطلق سراحه، ليس لأنه حَسَن السيرة والسلوك وحسب، بل لأنه يخبئ بين أضلاعه بيت ابني الذي سيستره مع امرأته وأولاده ويُخلّصهم من القمقم الذي يدفعون أجرته ستين ألف ليرة شهرياً، لن أطيل عليكم فلا حاجة بكم لمعرفة مشاعري وأنا أناول الصائغ ثروتي التي ضننتُ بها حتى على عينيّ، ففي قرانا يتردد مثل يُرعب كل ذي صندوق:
( لا يحسد الرزق إلا صاحبه)
وهكذا بعت الرزق الحبيس كله ووضعت فوقه قطعة الأرض اليتيمة التي ورثتها عن والدتي التي أوصتني قبل رحيلها أن أبني عليها بيتاً إذا وضع الله بيدي ما يُقيم أود ذلك الحلم.. حملت ثروتي في محفظة يدي، وتشبثت بها تشبثي بحياتي، وانطلقت إلى شارع يعج بالمكاتب العقارية، دخلت واحداً منها وفرشت أمام صاحبه حلمي ببيتٍ (شرح مرح، مُشمس مهويّ) يسكنه ابني بعد طول معاناة.. ابتسم الرجل بغبطة وهو يقول: (معناها رصيدك ما شاء الله كبير)
انتفخ صدري كبراً وقلت: نعم.. معي خمسة ملايين ليرة بالتمام والكمال.
قهقه الرجل من أظافر قدميه إلى طاسة رأسه الجرداء وهو يقول ساخراً:
ـ قلتِ لي بدّك إياه مُشمس ومهوي كمان..؟! شو رأيك بعمودين وكيس خيش؟ خيمة.. ماشي حالها الخيمة.. من شو بتشكي..؟)
خرجت أتعثر بحيائي، ودخلت مكتباً ثانياً، بادرني صاحبه بقوله:
ـ بتعرفي يا مدام (بطن أمك داعيلك) لأنك جئت إليّ، فأصحاب المكاتب العقارية كلهم ذئاب إلا ما رحم ربي.. لكنْ (وحياة هالشوارب)
ومدّ أصابعه تمّسد شاربيه وأردف:
ـ لقد وقعتِ في حضن أبيك وأمك.. فما طلبك..؟
حكيت له حكاية الصندوق والأرض والحلم، فاستلّ جواله وأجرى عدة مكالمات، ثم أخبرني أن طلبي جاهز وبالمبلغ الذي معي.. واصطحبني لأراه.. شهقت روحي فرحة بما رأيت، وسألته متى سنكتب العقد..؟
قال بثقة: الآن لو أردتِ أكلم صاحب البيت ونكتب العقد.
وبدأ يتكلم بطريقة مشفرة أخافتني، فوجدتني أغادر المكان على عجل، وأدخل مكتباً ثالثاً ورابعاً وعاشراً، وذات العبارة أسمعها من أفواه الجميع:
(لو لم تكوني محظوظة لما جئت إليّ دون غيري، فهؤلاء كلهم ذئاب يسرقونكِ وأنت تضحكين وتلعبين)
أهي عداوة الكار من نطقت بألسنتهم، أم أنها الحقيقة التي يؤمنون جميعاً بوجودها حيّة تُرزق بينهم، وكل واحد منهم ينفضها عن قميصه لتعلق على قميص جاره..؟ ومادام الأمر كذلك عند هؤلاء وعند غيرهم من التجار بكافة اختصاصاتهم ومشاربهم، فكم من الأعمار والأحلام والمآقي سندفن حتى نتمسك بحبل الحياة الإنسانية..؟ وكم من الأرواح ستتصحّر وهي تشهق على طريق اللقمة والسقف وبعض الكرامة..؟
هربتُ من ذاك السوق مذعورة وأنا أحضن أرض والدتي وصندوق مجوهراتي وبيت ابني مخافة أن يأكل الذئب ليلى بعد عصور من التخفي والهروب.. وقبل أن أحط رحالي في غرفتي التي أدفع نصف راتبي كرمى لعينيها الذابلتين وصدرها الضيّق الشحيح، سمعت صوتاً مرعباً لا أعرف مصدره يزعق بين أضلعي:
(يوماً ما سيأكل الذئب ليلى)..
تهاويتُ أرضاً والروح تهجس: (ربما)

المزيد...
آخر الأخبار