على ضفاف العاصي : من وحي عزلة المعري

مما لا شك فيه أن الانسان بطبعه كائن اجتماعي ,يحب عشرة الآخرين ، والتواصل مع الناس ،وصحبة الأصدقاء، والا لما كان السجن عقابا للمجرمين، ومرتكبي الجنايات ومخترقي القوانين الموضوعة……… قلت هذا الكلام من وحي العزلة التي طلب منا القيام بها، حرصا علينا من فيروس (كورونا) القاتل الذي اجتاح العالم بأسره هذه الأيام ….. هذه العزلة التي برم منها الناس، وضاقوا بها ذرعا ،واصابهم الملل الشديد، حتى ان كثيرا منهم لم يلتزم بها، وأخذ يتصرف بالعطلة تصرفا غير صحيح ،فنجده يقضي الوقت بالزيارات ،أو التسوق، أو اللهو هنا وهنالك، غير آبه بالتعليمات، والأخطار الناجمة عن ذلك، وغير مستغل وقته بما ينفع ويفيد، كأن يقرأ كتابا، أو ينجز عملا متراكما، أو يلعب مع أطفاله ،أو يكون أكثر صلة بأولاده الذين حرموا من الجلسة معه بسبب وجوده الطويل خارج المنزل سعيا وراء لقمة العيش التي يطلبها في أكثر من عمل يقوم به …..و……و…… وفي غمرة هذا الواقع الذي نعيش، تذكرت عزلة المعري التي قضاها في بيته بين عامي (400 هجرية) و(449)، بعد الاهانة التي تعرض لها من الشريف المرتضى والي بغداد، بسبب دفاعه عن المتنبي حين نال منه هذا الوالي في مجلسه ،وكان المعري يحب المتنبي كثيرا معجبا بشعره، في حين كان الشريف المرتضى يكرهه كثيرا… وليس هذا الأمر ما يعنيني في هذا المقال، ولكن ما يعنيني هو ما أنجزه المعري في سنوات العزلة … فقد كانت حافلة بتأليف مجموعة من الدواوين الشعرية ،وكتاب نثري سماه (رسالة الغفران) … خلدت اسمه في صفحات التاريخ ،والناس يقاسون بما ينجزون ويقدمون لا بما يعيشون وقد قال الشاعر : ان الحياة كثيرها كقليلها إن لم تزن صفحاتها الآثار وقد قال آخر : اذا مر بي يوم ولم أتخذ يدا ( لم أقدم ما يفيد) ولم أستفد علما فما ذاك من عمري كما ذكرني واقعنا بما فعله الشاعر أبو تمام حين كان عائدا من بلاد فارس الى بغداد، حيث قطعت به الطريق بسبب الثلوج، وكان معه قافلة من الجمال، محملة بالكتب، فنصبت له خيمة ،استطاع فيها أن يختار من تلك الكتب قصائد من عيون الشعر العربي ضمنه كتابا سماه (ديوان الحماسة ) الذي نال اعجاب النقاد فقالوا : (أبو تمام في حماسته أشعر منه في شعره) ولابد لكل منا أن يدرك أن الحياة ليست لهوا وسرورا دائما ،بل فيها المكاره والمحن أيضا ،وعلينا أن نعيشها بكل ما فيها قال الشاعر: تأتي المكاره حين تأتي جملة وأرى السرور يجيء في الفلتات وما علينا الا التأقلم والصبر وملء فراغنا بما ينفع ويفيد . يقول الشاعر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج ويقول أبو تمام: يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله الا ما يشاء وكل شديدة نزلت بقوم سيأتي بعد شدتها رخاء

د. موفق السراج

المزيد...
آخر الأخبار