حكاية نهر عاشق : قراءة في قصيدة ( ويعلو غَمَامُ ) للشاعر عباس حيروقة

 

 

ترسم قصيدة ( ويَعلو غَمَامُ ) حكاية نهر عاشق , نهر أضناه الهوى وأبكاه الوجد , إنّه نهر مجبول على العطاء الكريم , فعذوبة مائه دلالة جلية على صدق حبّه لآلاء الطبيعة الفاتنة :
على بوح نهر شغوف
بقدّ الحقول قرانا
تنام
وتصحو على فيض آهٍ
لزهرة لوز إذا
ما اصطفاها بهذا
البهاء غرامُ .
يشير النظر الفاحص إلى أن شاعرنا عباس حيروقة يوظف أداة التشخيص الفنية
كي يُبرزَ ولع النهر العاشق بحقول قدّها يُحاكي قدّ المرأة الجميلة الرشيقة .
توحي عبارة ( فيض آهٍ ) أن حبّ هذا النهر المعطاء لا حدود له ,فهو يتهوّى الكروم ,فيشكو بث لواعج حبّه , فتستجيب له الكروم , فيقطف بعض عناقيدها في أجواء عرس الطبيعة المبتهجة بحبّ هذا النهر الجارف لتلك الكروم الذي يتمثل في شدو العصافير الفرحة عند طلوع الفجر الهادئ .
وهذي الكروم تهوّاها نهرٌ
فأطلق كلّ العصافير تشدو
وقطّف في هدأة الفجر
بعض العناقيد
ثمّ توضّأ في تربة
من مقامك ربي
عليك السلام .
معلوم أن الطبيعة بأسرها تحتفل بحب هذا النهر الجواد الذي نذر غيثه لها ؛ فالعصافير الشادية طرباً وحبوراً والفجر الهادئ هيأ له أجواء الحب وطقوس الوصال , فقطف بعض عناقيد الكروم التي تبرز بوصفها ثمرات حبها لذاك النهر الوله بها , تشير استجابة الكروم واستسلامها لأمارات حبّه إلى أسمى آيات الغرام المتبادل التي تجلّى في تقديمها عناقيدها له , وهذا يذكرنا بالعصر الذهبي في الأساطير الإغريقية الكلاسيكية حين نعم بنو الإنسان بحب الطبيعة التي بادلته حباً بحب , كما أكد الشاعر الإغريقي (هيسيود) في رائعته : ( الأيام والأعمال ) .
تتراءى ملامح العصر الذهبي الإغريقي حين نلحظ أن ذاك النهر الصادق يسجد ويؤدي طقس الوضوء على تربة مقدسة , كما رأينا وما هذا الوضوء والتعبّد إلا دلالة على أن النهر يحمد الله عز وجل ويشكره ؛ يمكنه من رفد الطبيعة بغيثه المدرار .
ويتابع شاعرنا عباس حيروقة تصوير هوى ذاك النهر الصب , فيرسم مشاهد هيامه بصفصافة وبالسحاب والفراش والحمام وسائر مكونات الطبيعة الساحرة .
لن أستطيع الغوص في بوحه كله , فهذا يتطلب صفحات عديدة , وسيكون بوحه الرقيق السلس هذا مشروع دراسة مطولة تليق بجماليات شعرية ذاك النهر المتيّم .

أ.د. الياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار