قصة قصيرة. عائد إلى الوطن .

.
– وصل المدينة التي فارقها زمناً .. دخل الحي القديم .. مشى وئيد الخطا .. وبعينين مخضبتين  بالدمع نظر إلى جدرانها ، تطلع إلى أبواب بيوتها القديمة وهو يتساءل :
–   هل هو الحي الذي  ولدت فيه .. !!  وتربيت ونشأت فيه ..!!  وهؤلاء الناس هم أصدقائي وجيراني .. وهل يتذكرني أو يعرفني أحد منهم  !!.
– تابع سيره .. وقف أمام منزلٍ تذكر أنه رآه من قبل .. قال :
ـ هذا هو بيت صديقي أحمد لقد عرفته . ما أقسى الغربة وكم نالت مني ..
– كنت ببلد أجنبي ذهبت إليه بقصد العمل ، مكثت فيه زمناً وانا غريب اللغة والديار .. وغربتي كانت أشد قسوة إثر حادث سير فقدت فيه ذاكرتي . لم أعد أعي شيئاً ، وأنا لا أكاد أذكر حتى اسمي .لا أعرف ذاتي وليس معي ما يثبت شخصيتي سوى جواز سفري ومع ذلك لا أذكر أين وضعته..
– كان الحادث مفجعاً جداً وكانت أيامي رمادية قاتمة لا تحمل جديداً ، وأنا في وضع لا أحسد عليه .. إنني بين نقطتين متناقضتين بين الأبيض والأسود ، وليس أصعب على الإنسان من أن يكون في المنطقة الوسطى ضائعاً محتاراً ، كنت قد أمضيت في المشفى أياماً باردةً كئيبةً لا ترشح منها قطرة رجاء ولا أمل .. كنت فاقد الذاكرة بصحبة صديق تعرف علي في المشفى وكان من مدينتي ومن حارتي ، بدأ يحدثني عن الحارة ، وعن الجيران .
– وعن أهلي وإخوتي .. ويردد على مسامعي أسماء أشخاص أكاد لا أذكر شيئا عنهم .
– ذات صباح ربيعي دافئ ، كنت أجلس مع صديقي في الحديقة القريبة من الفندق الذي أقيم فيه .. اقتربت مني فتاة  جميلة .. !! .. نظرت إليها .. !!
– دارت الدنيا بي .. كل شيء أمام ناظري لم يعد في مكانه .. الأشجار .. الزهور .. السماء .. الناس كلها صارت أمامي .. يا للصدفة الرائعة ..!!
– تلك الفتاة أظنني عرفتها .. لكنني لا أذكر أين .. ومتى .. رأيتها و ما هو اسمها.؟. صرخت من أعماقي وبلا شعور :
–  أيتها الصبية ما اسمك .. !! لكنها لم تأبه لي .. ولم تسمعني  .
– التفتّ إلى صديقي ،وقد أمسك بيدي ..
–  ما بك .. لماذا تصرخ بصوت مرتفع ..؟
–  هل رأيت تلك الصبية .. ؟  وهل عرفتها أنت ..؟
–  نعم عرفتها إنها من بلدنا ، لكني لا أذكر أين رأيتها وما اسمها..!
– سر صديقي وقال وهو يربت على كتفي :
–  أحمد الله أنك بدأت تتذكر .. هيا تعال  .. سنعود غداً..
–  كنت أتمنى من أعماقي أن أعود للحديقة ثانية ..لكي أرى تلك الصبية ، لا أدري ما هو الشيء الذي دفعني لرؤيتها ثانية .. لقد أعادت لذاكرتي صورة زميلتي التي أحببتها في الجامعة ، لكن الذي يؤلمني أنني لم أعد أذكر اسمها ، ولا حتى عمرها ولا أين تسكن .
– كانت ابنة الجيران ألتقيها كل صباح ، و كان وجهها الوردي يضيء شارعنا الصغير ، وشعرها الهادئ يسترخي فوق كتفيها باستسلام أخاذ .. بينما قامتها تخترق الطريق وتخترق صدري .. لتسكن في قلبي لطفاً . . وأماناً .. و رشاقةً .. وحلماً بعيداَ وقريباً . ( إنه الحب لغز كالفن لا يفسر ، والصداقة أعمق من الحب..)
– في صباح اليوم التالي ..  ذهبنا أنا وصديقي إلى الحديقة كان مستبشراً باسماً لأن ذاكرتي بدأت تعود إلي جلسنا على كرسي نتحدث عن بلدنا ، والأحبة الذين فارقناهم ، لكن من أعماقي أود أن أرى تلك التي شاهدتها بالأمس .
سويعاتٍ قليلةٍ مرت من أمامنا . لقد أتت .. إنها هي ..!!
قلت لصديقي : إنها هي .. وأشرت إليها .  توقفت وسلمت .. سألها صديقي :
–  هل عرفت هذا الشاب ..؟
– نعم إنه زميل أختي رنا ، في الجامعة ، وكان يود الاقتران بها ، لكنه سافر بخصوص العمل ولم نعد نسمع أخباره..
– سألها باستغراب..
– وأنت..؟
– بادرتني بابتسامة مشرقة ..
– أنا هنا برفقة زوجي ..
–  هل تذكرين اسمي .. !!
–  أنت (مهند) نعم أعرفك ..وأعرف أهلك نحن جيران منذ زمن هل نسيت ؟  انتهى حوارنا عند هذه النقطة كأنني خشيت أن أسمع ما لا يسرني ..أو أنني خفت على الحلم الوردي القصير أن يبدده هذا الكلام ..الحقيقة التي أرددها في قرارة نفسي إنها هي .. وأنا (مهند) نعم إنه اسمي وهذه حبيبتي ( رنا ).لقد عرفت اسمي . واسم بلدي وحارتي ..
–  كانت سعادتي كبرى وأنا أسمع هذا الكلام ..هل أصدق ذلك .. !! هل أنا أحلم..!! وهل تصدق الأحلام. ! لكن لابد من العودة إلى الوطن .
– الآن أنا في بلدي وهذه هي الحارة ..ما أجملها..؟؟.. جدرانها العتيقة خبأت في أكمامها ..أسماءنا ..أسرارنا . . ذكرياتنا بحلوها  و مرها..
– وقف ينظر على المدى ..الحارة ..عله يلتقي بأحد يحدثه أو يسأله ..لفت انتباهه بيت متطرف أعيد ترميمه  وبيدٍ نحيلةٍ خجلى أشار إليه وطرق الباب .
– هذا هو بيتنا.. كان أبي يفكر في إصلاحه ، فتحت الباب سيدة وقورة كلل الشيب رأسها نظرت إليه برهة لكنه بادرها :

– أمي أليس كذلك.
– ـ أجل ابني مهند .. تعالوا ..استقبلوا مهند .. و.. و..
– لكن مهند قد شغلت تفكيره ( رنا ) كيف يسأل عنها ، وما هو الجواب ! .. و بلا موعد طرقت الباب ( رنا ) رحبت أمه بها وقالت :
–  تعالي رنا لقد عاد ابني مهند إنه يسأل عنك ..اقترب منها أمسك بيديها .. وقفت أمامه كتمثال وهي لا تصدق أنه عاد ، ومن بين دموعها رأته يبتسم ، وفي تردد وحيرة ثم في رغبة وشوق اقتربت منه وقبل أن تعاتبه قال لها:
–  لن أسافر بعد اليوم .
رامية الملوحي

المزيد...
آخر الأخبار