عرفنا أ.د راتب سكر شاعراً أو ناقداً من الطّراز الجاد المهم، بيد أن مجموعته القصصية (تقارير كاذبة)، دلت على أنه قاص، يجيد السرد وصناعة الأجواء الدرامية، التي تجعل القصة عالماً يضج بالنشاط، بل بالحياة على نحو عام.
في وقفتنا هذه سنسلط الأضواء النقدية على قصة قصيرة بعنوان “حوار حزين”؛ لأنها تعالج موضوعات جد مهمة. إلا أنني آثرت أن أستهل دراستي هذه بعبارات الإهداء في مفتتح المجموعة، حيث نقرأ:
إلى أمي بسيمة: “رأيتها في منام تناديني بصوتها الحاني، من كوة بئر عالية، فأجبتها: لا تقلقي، ستمر قافلة سيّارة، أرافقها إلى مصر …..
قالت: تعلق سريعاً بالحبل، سأشدّ …..
وسرعان ما أطلت تباشير الصباح، تزين قهوتنا على منضدة سمراء؛ ما تزال ترافقنا منذ طفولة بعيدة ….”.(ص٥)
معلوم أن الإهداء ما هو إلا عتبة نصية تعدّ القارئ إلى أجواء هذه القصص،
لقد صاغ الأديب راتب سكر إهداءه هذا في قالب حوار مع أمه، رحمها الله، والأمهات كن مصدر الإلهام الشعري في تاريخ الآداب، فهن اللائي ألهمنَ شعراء الإغريقيين الكلاسيكيين وغيرهم. ولاستلهام صورة أمه قيمة أخرى، إذ تبدو بمنزلة القديسة التي انتشلته من غيابته، كما جرى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فأمه صوت مقدس تهمس في روحه فتفتح قريحته الإبداعية، ويصوغ عبير كلماته ذات الأبعاد الإنسانية العميقة.
يفتح القاص أ.د.راتب سكر قصته “حوار حزين” هذه برسم مشهد درامي، يشي بحزن عميق، إذ يستعين بعلامات سيميائية الأسى الشديد:
إطراق الرأس، والوجوم، وأثرهما في نفوس الأصدقاء. في قصتنا هذه، “أطرق سعيد رأسه يفكر حزيناً، بدا منظره لأصدقائه مثيراً للتعاطف”.
ويزداد طابع الحزن شدة حين يوظف القاص سكر تقانة المفارقة، قاسم بطل القصة “سعيد”، لكنه ليس بسعيد، بل هو حزين، بسبب انجراف أصدقائه نحو مظاهر الحياة المادية، كالشقة السكنية والتجارة والأرباح والمصالح، عوضاً عن الثقافة والتعليم – سبيلي بناء جيل المستقبل.
أجل هذا ما يقضّ عليه مضجعه، لأن أولويات الحياة قد تغير ترتيبها، فسطوة المادة هيمنت على التفكير، وقلبت موازين الحياة رأساً على عقب. بتألم شديد، يشكو سعيد؛ فيبثّ حزنه قائلاً : “النزوع إلى المصالح الماديّة، يطغى على الاهتمامات الثقافية الجوهريّة، التي تتنحى بتهذيب كبير، لا يساعدها على الدفاع عن نفسها، وسط أمواج حوار تهدر عالية …”.(ص ٤٩).
غير أنّ هذا الحوار لن يهدأ؛ لأنه يغدو هاجساً يسكنه على نحو دائم، وهذا ما يتجلّى حين يلجأ القاص سكر إلى ظاهرة الميتا كتابة أو الميتا قص، التي تتبدى في سكب هواجسه هذه في مذكراته، بوصفها وعاءً للتعبير عما يعتمل في خاطره من هموم وأشجان، ترتبط بالشأن العام الذي يتمثل في إعداد جيل المستقبل الذي سينهض بالبلاد نهضة علمية قوية البنيان؛ كتب خالد – الشخصية القصصية- في مذكراته أن “حواره مع أصدقائه، ظل مبعث حزن عميق في نفسه، لأيام طويلة، شعر أن ولعه بالظواهر الثقافية يتحول يوماً بعد يوم إلى حالة فردية، تعزله عن أصدقائه، لذلك قرر أن يعيد الحوار من جديد معهم، محاولاً إقناعهم برؤيته”. (ص ٤٩).
هذه هي عزلة أصحاب المعرفة والعلم، لأنهم يحثّون على الاجتهاد في المناقشة والتفكير.
هذه هي في عجالة، فالنظر فيها علمياً يتطلب صفحات وصفحات
أ. د . إلياس خلف.