– مشى سعد بجانب النهر الذي يعبر المدينة الكبيرة.. مشى حائراً غريباً يحدث نفسه للمرة الأولى أترك فيها قريتي كي أعمل في المدينة… لقد أقنعني صديقي بذلك..ما أكبر المدينة كم هي واسعة.. ؟
جال بناظريه يمينا ويسارا .. شاهد المحلات التجارية الضخمة… توقف أمام الواجهات الممتلئة بمختلف أنواع البضائع …كل شيء جديد وحديث اقترب من صاحب المحل وطلب أن يعمل عنده … لكنه اعتذر منه بلباقة قائلا :
ــ لسنا بحاجة لعامل… نتمنى لك حظاً أوفر.
حاول أن يعمل في أحد المطاعم… لكنه فشل .. لقد تعب من السؤال..أيام …وأيام ..يكرر البحث عن عمل…
دخل الحديقة العامة كي يستريح… جلس تحت شجرة كينا ضخمة , أسند رأسه المتعب إلى جذعها, كان يتصفح وجوه المارة , رأى في وجه الصبايا وجه محبوبته يخالطه وجه يأسه , فكر كثيرا ثم نهض مسرعاً .. وهو يتمتم…
ـــ لا لن أيأس سوف أبحث عن عمل .. رجع للبيت الذي استأجره .. كانت غرفة صغيرة في منزل عتيق بإحدى حارات البلدة القديمة ..
أحست صاحبة الدار بقدومه … نادته , لكنه لم يأبه لندائها..
دخل غرفته، وقعت عيناه على زاوية الغرفة هناك توجد من يشكو لها همه.وهي ( النرجيلة ) .. التي أحبها ..اقترب منها.. حملها.. احتفى بها وأوقد جمراتها .. فانبعث منها رائحة “المعسل العطرة”
جلس ساعات طويلة مع نرجيلته وسحب دخانها تخرج من فتحتي انفه ثم يعلو رأسه ماذا يفعل..؟ يتساءل أية ضائقة مادية يقع بها.
تذكر المطعم الصغير الذي يذهب إليه كل يوم … أطفأ نار النرجيلة و استلقى على فراشه حالما بالغد..
وفي الصباح … خرج ليتناول طعامه في المطعم الصغير الذي ارتاده مرات ….ومرات اقترب من صاحب المطعم و قال له :
ــ أرغب في العمل عندكم , إن كنتم بحاجة لعامل.
ــ نأسف فالمطعم صغير كما ترى.
سار و هموم الدنيا تطوق عنقه ,و اليأس كاد يخنقه.. لقد ندم لأنه لم يكمل دراسته حتى ولم يتم المرحلة الإعدادية.. . لكن لن ينفع الندم , و الفشل ليس عيبا , سوف يستمر بالبحث عن عمل…عاد لمنزله.. دخل الحارة القديمة, استنشق من جدران بيوتها الترابية الرطبة أديم ارض قريته, كان متألما غاضبا و هو يفكر … ماذا يقول للمرأة المسنة الطيبة…
إنها تريد أجور الغرفة , فمنذ شهرين لم يدفع لها شيئا ..
رأته يفتح باب غرفته … نادته.
ــ تعال سعد.. تعال لتشرب الشاي معي يا بني …
ــ سآتيك جدتي ..
دخل غرفته.. اقترب من نرجيلته أراد أن يوقد جمراتها.. فتح حقيبته التي يجمع بها أشياءه بحث كثيرا ..لا..لا..لا يوجد معسل .. حتى الفحم نفد..لم يبق منه قطعة واحدة .
مد يده إلى جيبه ,النقود تكفي مصروفه ليومين ..انفعل وانزعج ..ثم تمدد في فراشه … واتخذ قراره النهائي , وهو آخر سهم يرميه في هذه المدينة الضخمة, قرر أن يشتري ورقة يانصيب.
أي مبلغ سيربحه سعد سوف يحقق له أحلامه…لقد دفع كل ما لديه من مال ثمناً لهذه الورقة .. ثم ذهب لصديق له كان متنفسه الوحيد في هذه المدينة واستلف منه بعض المال ..عاد لغرفته..مساء
ثم حدث العجوز بما جرى معه …ضحكت العجوز بحنان و أجابته:
ـــ هل جننت سعد.. ؟ تنتظر سحب اليانصيب , هذا خطأ يا ولدي, عد لقريتك و أهلك , هذا خير ما تفعله..
مر يوم .. وتلاه آخر .. أحلام كثيرة تداعب خياله
جاء اليوم الموعود .. اليوم السحب ..
دقات قلبه تسارع خطاه تسبق جسده، هذه اللحظة .. هذه اللحظة بالذات تختزل كل معاناته في الغربة , لكن إذا ربح. ! !
اقترب من دكان بائع اليانصيب.. أمسك الورق التي تحمل الأرقام الرابحة .. قرأها..و أعاد قراءتها لم يجد أي تطابق بالأرقام .. شعر بألم يعتصر قلبه … البرودة تسري في جسده
لم يعد يسمع صوته… صاح بلا شعور:
كانت الورقة غير رابحة لقد خسرت حتى قيمتها.
عاد سعد للبيت الذي يسكنه و الكآبة تسيطر عليه …
دخل فناء الدار العتيق تنسم رائحة الرطوبة التي تسكن أكمام جدرانه منذ عقود طويلة.. وقف أمام شجرة التوت، تأمل أوراقها الخضراء..قال:
ـ إن قوة خارقة في هذه الشجرة. إنها لن تيأس .. تعطي التوت ، والخضرة والظل رغم كبر سنها ما أقوى إرادتها على الحياة والعمل …
دخل غرفته صاحت العجوز …
ـ هل أتيت سعد ..؟ أخبرني ماذا جرى معك ؟ اقترب من العجوز وبكى بين يديها. ورقة اليانصيب لم تربح أليس كذلك؟ إنك تعيش وهما كن واقعياً يا بني بين أسبوع وآخر يأتي الخريف وتبدأ زراعة الأراضي عد إلى قريتك .. فالأرض تعطيك ذهبا إن عملت بها.. أنت شاب في مقتبل العمر وأرضك بحاجة إليك ولسواعدك إزرعها وعش بخيراتها مرفوع الرأس .
رفع رأسه للسماء .. شعر بأمل مشرق يناديه, رأى الشمس تنظر إليه صفراء باهتة تبشره بقدوم الخريف.. ،لمح من وراء الغيوم وجه محبوبته الجميل و ابتسامتها الحلوة… و أنسام خريفية الموعد باردة تلطف من حرارة الجو إحساس غير طبيعي حمل إليه ذكريات طفولته وشبابه ..لابد من العودة إلى القرية
اقترب من العجوز .. نظر إليها .. رأى بوجهها صورة أمه بحنانها و نصائحها … أمسك بيديها المرتجفتين قبلّهما و قال لها:
جدتي في هذه اللحظة أسمع كل شيء في قريتي يناديني .. الأرض .. أمي …حبيبتي … إخوتي ..
سأعود إليك جدتي..انتظريني في الصيف القادم مع ذهب المواسم … سأعود إليك ..
*رامية الملوحي*