قصة قصيرة. شجرة الكينا . .

توقف القطار في محطة صغيرة لقرية نائية بعيدة .. نزل منه مسافر يحمل حقائبه وسار في طريق ترابي ثم وقف يتأمل القرية , كانت بيوتاً طينية وقباباً منتشرة على مدى البرية الواسعة.
منذ عامين وهو يسافر لتلك القرية , لقد أحبها وأحب بساطة العيش فيها ، إنه يعمل مدرساً لأولاد هذه القرية ,وسكنه في المدرسة نفسها.
مشى متجهاً لبيت المختار ليأخذ مفتاح المدرسة، وأمور كثيرة تدور في رأسه ويتساءل : لماذا أحببت هذه القرية ..؟هل لأنها بعيدة عن مدينتي ..؟ أم لأنني وجدت فيها راحة البال وهدوء النفس..! على الرغم من بعدها عن كل مظاهر المدينة.
هنا لايوجد طرق معبدة … ولا مواصلات .. ولامياه عذبة نقية .. وأنا أقيم وحيداً .
هكذا فضلت أن أعيش وحيداً وهذا اختياري.
وصل المعلم أحمد بيت المختار , رحب به وأدخله ليستريح من عناء السفر فالسفر في القطار متعب جداً والمسافة بعيدة.
وعند المساء ذهب ليرافقه إلى المدرسة , فهو المعلم (الوحيد) هكذا يسمونه لأنه وحده في المدرسة وفي إدارتها وتعليم طلابها ، لكن المعلم (أحمد) كان بمنتهى السعادة , دخل المدرسة وفتح الغرفة المخصصة لإقامته ، كان كل شيء على مايرام في الغرفة.
سرير نظيف ومرتب … مضاءة بالكهرباء , استلقى على سريره وأغمض عينيه وراح في سبات عميق حتى الصباح ، كان الصباح رائعاً في القرية فتح النافذة ووقف يتأمل الطبيعة .
-ماأجمل صباحك أيتها القرية الطيبة البسيطة.
خطرت أمام النافذة صبية بعمر الورد ، ريفية القسمات جميلة , تأملها وهي تمشي مسرعة خلف قطيع الغنم فقال :
-يا إلهي .. إنها تشبه حبيبتي كل الشبه…! هل تشبهها أم أنا تخيلتها هكذا..؟
فهي بعمرها .. إن طيفها لا يفارقني أبداً هل أنهت تعليمها أم تزوجت …؟
استعاد في مخيلته كل ما مر معه في حياته … شريط ذكريات .. وحدثاً إثر حدث قال:
كنا جيراناً تربينا معاً ، أهلي وأهلها أكثر من أهل , ولا يفصل بين منزلي ومنزلها إلا جدارا ، نذهب إلى المدرسة معاً ، وأنتظرها حتى الانصراف لأرافقها إلى البيت.. وفي الطريق نتوقف عند الدكان لنشتري ونتقاسم ما نشتريه ثم نجلس تحت شجرة الكينا الكبيرة الضخمة التي غرسها أهلنا ، كانت تظللنا بردائها الأخضر الزاهي.
تقرأ لي ماكتبت في المدرسة , وأصحح لها وظائفها كانت تقول لي وهي تضحك تعال نختبئ تحت هذه الشجرة حتى لايرانا أحد..
وحدها شجرة الكينا تحفظ أسرارنا .. همساتنا بأحلى الكلام .. كنا نكبر وتكبر معنا.
تابعت هي تعليمها وتابعت تعليمي واتفقنا أن نعمل في سلك التدريس لأنها هي تحب هذا العمل كانت تحدثني وهي تبتسم:
مارأيك أن تعمل مدرساً مثلي , حتى لانفترق لنظل معاً فأنا سأنهي تعليمي وأصبح مدّرسة..
عندما أنهيت تعليمي تقدمت لخطبتها.. لكن والدها رفض كل الرفض وقال لي:
إن المشوار طويل أمامي.. خدمة العلم… وتأمين المنزل… و…و…
كانت الصدمة قاسية عليّ فأيقنت أن كل ماحلمنا به منذ طفولتنا وحتى هذه اللحظة انتهى.. لقد انتهى ببعض كلمات من والدها.. لقد نسي والدها أننا جيران وأن علاقتنا أكثر من أهل، وأنه ووالدي أكثر من إخوة.
خرجت من منزلها وعانقت شجرة الكينا التي كنت أحبها ولازلت أحبها لأن حبيبتي تحبها لمست أصابعها الخضراء. سألتها أن تحدث هذا القاسي بكل معاناتي.. قلت لها : إن الحب كالشمس الساطعة لايمكن أن ينطفئ… الحب لغة من لغات الله التي منحها لمن يعرف قيمة الحب… الحب لغة لاتعرف الفرق بين الجهل والعلم ولابين الفقر والثراء.
التحقت بخدمة العلم .. وأنا أتابع أخبارها من قبل أهلي وعندما رحلوا من جوارنا كان خبر رحيلهم أصعب من قرار رفض والدها .. ابتعدت ولم أسمع عنها أي خبر أنهيت خدمة العلم والتحقت هنا بعملي وهذا بطلب مني أن أكون بعيداً لكن اليوم وهذه اللحظة بالذات وجه هذه الصبية ذكرني بها .. إنها حبيبتي هيفاء إنها الحب الأول والأخير .. إن الآمال والأحلام التي عشتها معها ربما لا أستطيع أن أحتمل مرة واحدة فقدانها .. ليتني أضم
أناملي على السعادة التي كانت معك للأبد ..دخل إدارة المدرسة ليبدأ عمله .. وإذ بساعي البريد يحمل إليه بريد مديرية التربية فتح المغلف قرأ قراراً بتعيين معلمة جديدة تساعده .. لم يكن يتوقع أبداً أن المعلمة الجديدة هي هيفاء .. الحبيبة الغائبة الحاضرة..
دارت الدنيا به .. حلق في فضاء لا يعرف مداه ما أصغرك أيتها الدنيا . لقد التقيت بمن أحب الآن آلاف الأسئلة تعصف برأسي وتمر بخاطري ماذا أقول لها عندما ألقاها ..؟ هل تعرفني إذا رأتني ؟ منذ أربع سنوات لم نلتق هل مازالت تحبني ..؟ هل تزوجت ومعها زوجها ..؟
أي شعور يعتريني عندما ألقاها .. أي إحساس تحس به تجاهي حين تلقاني ..! أرجو ألا تكون قد تزوجت ..لا .. لا أعتقد هذا فهي تحبني ولو افترقنا بقرار تعسفي من قبل والدها ..

أمضى يومه .. وليله .. وهو يفكر ..
وفي صباح يوم لا ينسى تاريخه أبداً كان في المحطة ليستقبلها وصل القطار ومن وراء زجاج نافذة القطار هل وجه هيفاء القمري المدوّر .. هيفاء ..هي ..هي ولا أحد يشبهها نزلت من القطار يا للفرحة الكبرى وقف أمامها رحب بها .. كانت المفاجأة فوق احتماله . هيفاء الصبية الجميلة التي عرفها منذ كانت تركض أمامه طفلة صغيرة بضفائر شقراء تزينها شرائط حمراء . الآن معه والى جانبه معلمة جميلة التفت إليها وقال :
لا يهم ابتعدنا أربع سنوات .. المهم التقينا فالحب يسبق كل شيء .. وأي شيء . . . إليه التفتت إليه وكأنها لاتصدق نفسها
أنا لم أنسك طيلة فترة البعاد هذه كنت أسأل عنك دائماً .. علمت أنك مدرس هنا . فطلبت تعييني في هذه القرية لأكون معك والى جانبك مثلما كنا نحلم .
لقد أحضرت لك هدية انظر ( غرسة من شجرة الكينا ) التي كانت عزيزة علينا تظللنا بأوراقها الخضراء ونجلس تحت أغصانها نغرسها هنا تكبر معنا .. ويلعب تحت فيئها أولادنا …
رامية الملوحي

المزيد...
آخر الأخبار