لم تكن هي .. تساؤلات كثيرة يود قولها ويريد الإجابة عنها ..
ـ غادر منزله مصطحباً حقائبه ، بعد أن قرر ألا يعود إليه ثانية ..
ـ مشى وئيد الخطا شارد الذهن يسترجع أمام ناظريه شريط أحداث كثيرة , أكلت جزءاً من سنين حياته وخلفت محطات مهمة في مسيرة عمره .. وقف في منعطف الشارع وضع حقائبه أمامه ليستريح قليلاً أرسل بصره في امتداد الشارع حدث نفسه :
ـ هنا كان بيتنا وكنا جيران ، أنا وهي لسنوات طويلة .. سوف اذهب إليها ، لكن أتستقبلني .. ؟ أنا أحبها .. هي زوجتي و أم ابنتي الوحيدة، حمل حقائبه وتابع سيره ، والتفكير يحتل ساحة ذاكرته المتعبة .. كان بحيرة من أمره لا يعرف ماذا يفعل ؟ لكن لابد من العودة إليها ..
توقف أمام واجهة إحدى المحلات ، نظر من وراء الزجاج ، رأى صورة وجهه حدق ملياً كانت قد ارتسمت صورته بوضوح تام .. صاح من أعماقه يا إلهي .. لقد كبرت كثيراً هل تعرفني عندما ألتقي بها ..؟!.
صار شعري أبيض كالثلج ووجهي استقرت به التجاعيد دون استئذان لقد تغيرت كثيراً ولكن سأحاول ثم ابتسم : / ما زال في العمر بقية / ….
استأنف سيره في نفس الشارع وهو حامل حقائبه ، كانت ثقيلة جداً لكنها لم تكن أثقل من همومه وتفكيره …
تذكر أنها تحب زهر القرنفل الأحمر .. وهو زهرها المفضل ، فهي شاعرة ممتلئة رقة وعذوبة ، اقترب من محل بيع الزهور جمع بعض الزهور الحمراء الجميلة .. أمسكها بيده .. عانقها لقد عاد بذاكرته إلى أيامه الحلوة معها , لقد كانت المؤشر الأول لعلاقتهما وحبهما . احتضن الزهور .. أسرع في خطاه راسماً في مخيلته أحلى لقاء مع زوجته الوفية بعد هجر دام سنين …
وصل المنزل .. تطلع إلى البناء الكبير هنا وعلى هذه الشرفة التي تغص بأصص الورد سهرنا .. وتسامرنا ..
كانت تقرأ لي كل ما تكتبه وأنا أستمع إليها بكل أحاسيسي ومشاعري …
أمضينا معاً أحلى سنين عمرنا .. كان ارتباطي بغيرها لحظات طيش مجنونة أبعدتني عنها ..
صعد الدرج ، كان قلبه ينبض .. يداه ترتجفان .. الكهولة نالت منه .. لكن تفكيره نال منه أكثر .. همومه
ماذا يقول لها عندما تفتح له الباب ويلتقيان .. كيف يعتذر ..؟ وأي كلمات يقول لها ..؟ كل الحروف الأبجدية وإن اجتمعت بأحلى الجمل لا تكفيه …
اعذريني .. عدت إليك ، ولن أغيب بعد الآن .. هكذا سأقول لها .
رفع رأسه إلى أعلى الدرج يتطلع من خلال نظارته متمتماً …
يا إلهي .. سوف أصل ، وهذا هو المنزل إذا فتحت الباب .. ماذا .. أفعل ؟.
هل أجدها بعد هذا الغياب ..؟ وهل هي كبرت مثلي ، أم ما زالت جميلة .. أنيقة .
كانت تختار ملابسها بذوق رفيع . إنها تكتب بالصحف والمجلات ، وهي في قمة الأنوثة .
روحها مرحة وقلبها ينبض بالحيوية ، علّي ألا أخسرها ثانية .
توقف أمام باب المنزل ، هذا هو الباب ، وهذا هو المنزل ، وما زال كما هو ..
عندما دخلناه معاً منذ أعوام طويلة ، لقد شهد البداية بحياتنا الزوجية ..
قبل أن تلتف تلك الأفعى على أغصان حياتي وتأكل ثمار عمري ..
كم كنت غبياً .. تطلع إلى الزهور التي حملها بعناية فائقة ..
لكن سأعود إليها وأقدم الزهور .. حتماً تسامحني ..
وضع حقائبه أمام باب المنزل ، ضغط الجرس بيد باردة كالثلج ، مرتجفة ، نحيلة كغصن شجرة جف ويبس ..
لا احد يرد ” قال لنفسه ”
ضغط ثانية .. لا أحد يرد .. ولا حركة … وضع أذنه على الباب ليسترق السمع شعر أن الهدوء والسكينة يعشعشان في المنزل . استغرب من ذلك ..
أين هي .. هل رحلت .. لا ادري ..!؟.
ثم كرر للمرة الثالثة والأخيرة …
فتحت الباب سيدة وقور أمعن النظر في وجهها ، لم تكن هي .. تساؤلات كثيرة يود قولها ويريد الإجابة عنها ..
أين هي ..؟ هل رحلت ..؟ وإلى أين ..؟ ثم من أنتِ ..؟
وقفت أمام السيدة وقد تماسك وانتظم في وقفته وسألها :
أين هي ..؟
من ..؟
أليس هذا منزل السيدة ليلى ..؟
أجل .. وأنا صديقتها ..
عفواً سيدتي .. أنا زوجها ..
ولكن قاطعته ..
أنت الذي هجرتها سنين واليوم عدت ..؟
ارتبك وتلعثم في كلامه ، بأية إجابة يرد عليها .
لكني أريدها .. أريد أن أراها ..
لقد سافرت لتزور ابنتها..
تعنين أنها سافرت بعيداً .. لباريس .. لكن متى تعود ..؟
لا أعلم .. أنا مقيمة في منزلها ريثما تعود ..
أريد منك معروفاً قبل أن أغادر .. باقة الزهور هذه ضعيها في مزهرية وعلى طاولتها علها تذكرني عندما تعود .
حمل حقائبه وهم ليعود أدراجه مغادراً ، لكنها استوقفته قائلة :
لحظة من فضلك انتظر …
أحضرت مغلفاً وقدمته له ..
هي علمت ما جرى بينك وبين زوجتك الثانية فتركت هذا المغلف وأوصتني إن سألت عنها يوماً أن أعطيك إياه ..
أخذ المغلف ونبض قلبه يسبق عقارب ساعته .. فتحه فكان ديوان شعر عليه إهداء منها ..
قرأ العنوان فكان ( لغة الجمر ) .
رامية الملوحي