تستهل الأديبة رامية الملوحي مجموعتها القصصية المعنونة ب “بداية جديدة “بمقدمة تكتسب أهميتها بصفتها عتبة نصية تعين القارئ على قراءة هذه القصص وتذوقها معنى ومبنى .
عنونت القاصة رامية الملوحي مقدمتها ب” أنا والقصة “،ويشير النظر الفاحص إلى أن لهذا العنوان قيمته النقدية لأنه ينطوي على حكاية الأديبة مع فن القصة وتماهيها معه بوصفه فنا جميلا هادفا لا مجرد حكاية تروى…كما هو الحال عند عامة الناس: (ص ٩ )،ويتجلى هذا التماهي في خاتمة هذه المقدمة حين تؤكد الكاتبة قائلة: فالقصة أنا لأنني (عمر من الكلمات) (ص ١٥)،يوحي هذا الاعتراف الصريح بانصهار ذات الأديبة الإبداعية في بوتقة القصة بوصفها فنا يصور قضايا الناس بقالب فني له قواعده و أصوله ، ويرصد هموم المجتمع بعدسة بالغة الدقة:(ص٩)،وتمضي الأديبة قدما فتبوح بوحا تفصح فيه عن تجربتها القصصية ،فتقول: “وهذا ما جعلني أكتب القصة منذ عقود طويلة لأنني أحببتها بشغف وأحببت أبطالها…. وأحداثها ورأيت من خلال القصة بأنها أروع أنواع الأدب الإنساني لأن غرضها ليس التسلية والمتعة الزائلة، وانما التأثير في النفوس من خلال عرض فني جميل ( ص ٩ ).
وتعرض الأديبة الملوحي مكونات صناعة القصة الملوحية، إن جاز لنا التعبير، فنلحظ أن هذا الفعل الفني هو حصيلة ثالوث يقوم على أقانيم أساسية ثلاثة، فأما الأقنوم الأول فيتمثل في ذاتها المبدعة، والثاني يتبدى في أسلوب تفكيرها بغية تقديم إبداعاتها على النحو الأكثر تأثيراً ووقعا في نفوس المتلقين، وثالث هذه الأقانيم يكمن في سلب أحاسيسها إزاء الأحداث أو الوقائع التي تتصدى لسردها في قالب قصصي شيق وسلس.
“فكانت القصة في جزء منها هي أنا…وفي جزء آخر هي طريقة تفكيري، وفي جزء ثالث هي التعبير عن حالة إحساسي بالوجود ووقع الأحداث”،(ص ١٥).
إذن فالقصة هي الأديبة ذاتها، لأنها كما أسلفت القول “عمر من الكلمات” .
تفتتح الأديبة قصتها ” بداية جديدة ” التي وهبت عنوانها للمجموعة برمتها،بوصف جميل للطبيعة الاسرة التي شحذت خيالها الثري وأبعدت عنها كابوس الخمول والركود:
هذا الصباح الذي يتقطر نسيما خريفيا مؤرجا بعبير الياسمين، يمر على القلب ماسحا صدأ الخمول من حرارة الصيف اللاهبة.
بلى،لقد كان وقع هذا الصباح بنسيمه وأريجه بالغ الأثر في نفس الأديبة المرهفة الأحاسيس، إذ شعرت بحالة أشبه بالولادة الجديدة:
“هذا الصباح الجميل أسير ذاهبة إلى عملي، وأنا أشعر أني ولدت من جديد،وهذا الشعور يتجدد كل صباح مع كل نسمة وادعة صامتة تلامس وجهي ووجوه الذاهبين إلى أعمالهم ومدارسهم.(ص١١).
وما هذا الشعور بالولادة الجديدة إلا انفعال ذاتي تبع حالة انتشاء روحها التي ثملت فتوثبت فرحة مرحة بمظاهر الطبيعة من حولها التي رأتها قصيدة لا نظير لها: ” ثملة أنا بهذه القصيدة المكتوبة بيد الطبيعة” (ص١١).
غني عن الذكر هنا أن مفردات الميتا كتابة(“القصيدة”،” المكتوبة”،و”بيد الطبيعة” بوصفها ريشة الفنان أو قلمه ) تشير إلى خيال الأديبة المبدع، فهي فنانة تجيد رسم أحاسيسها وتسكبها في قالب قصصي عذب.
ولكن سرعان ما تأفل لحظة الحبور هذه، إذ تتراءى أمام ناظريها لوحة خريف عمرها، فهي أتمت الستين من عمرها وأحيلت إلى التقاعد:
“دخلت مكتبي وأغلقت الباب فأنا بحاجة للهدوء، وأن أكون وحدي، فوحدتي الذاتية التي أحبها، هي لحظة سكونية صامتة مضيئة بتوهج الروح رغم وخز الألم الذي أعانيه.(ص ١١).
قائلة إنها تود أن تطرد هذا الشعور بالكآبة بالعودة إلى ماضيها الحافل بالعطاء والتفاني في عملها:
“أحب أن أبقى مع أوراقي…وطاولتي ! كيف أبتعد عن هذا كله، وقد أخذت شكل ملامحي … أضحك لهذه السنوات التي مضت ! وكم يطيب لي أن أضع صورة عمري على كل غلاف وكل مجلد تمتد أصابعي بلا شعور لتلامس فيء الورق، وأراه يناديني ! أرى الأرقام تضحك مشعلة ذاكرة الوقت الطويل من زمن ما وفي مكان ما… تساقطت السنوات أمامي… أربعون عاماً من العمل الوظيفي صارت جزءا من عمري …(ص ص ١١.١٢).
تعود الأديبة الملوحي إلى الواقع المرير المحدق بها، فتتأمل وجهها في المرآة، فتتساءل بصوت خافت:
” هل أنا لم أعد قادرة على العمل؟! وهل الشيخوخة بدأت تنال مني؟! (ص١٣).
بيد أن فترات القنوط والكآبة تصل إلى نهايتها، إذ تلوح أمامها فرصة عمل، فتنفرج أسارير وجهها، لأنها ترى فيها عودة إلى العمل وتحقيق الذات بفضل العطاء.
تصوغ القاصة هذا الشعور بالفرح العارم في ظلال حوار مقتضب بين رب العمل ونادية المتقاعدة:
-ما رأيك أن تعملي معي…؟
-أعمل…! بماذا…؟
-أنا صاحب شركة ألبسة جاهزة وتحتاج الشركة لسيدة جديرة بإدارتها… أتمنى أن تكوني أنتي.
-لا مانع عندي. (ص١٣).
تشعر نادية، بطلة هذه القصة، بسعادة كبيرة، ففرصة العمل هذه كفيلة بأن تزيح عنها شبح الكآبة واليأس والموت البطيء وتقودها إلى ولادة جديدة لتحيا عمرا جديدا ملؤه العمل والإنتاج:
“استلمت العمل وكانت بداية لعمر جديد قادم” (ص١٣).
وبايجاز شديد، تشكل هذه القصة فصلا من فصول حكاية عمر الأديبة المبدعة رامية الملوحي.
أ.د. الياس خلف