تجليات الميتاقص في قصة (رسالة من ميت 3) للأديب مراد داؤد


“الميتاقص” مصطلح حداثي شاع في عصر الحداثة النقدية. ويشير هذا المصطلح إلى إشارة فن القص إلى تقاناته ومكوناته ومضموناته التي تعمل جنباً إلى جنب كي تؤدي القصة مغزاها المتوخى.
في هذه العجالة سنقف على تجليات الميتاقص في القصة المذكورة أعلاه. يلجأ أديبنا مراد داؤد إلى آلية الاقتصاد اللغوي، فيكثف مفردتاه وجمله بغية رسم بطل هذه القصة الذي عاش في ظروف قهر مادي ونفسي واجتماعي. يقول الأديب داؤد:
فتح منذر الباب بمفتاح كان قد تسلمه من مخفر شرطة البلدة التي كان يعيش فيها المتوفى، وكونه وحيداً ولا أقارب له قامت عدة جهات خيرية بكل ما يتوجب من عملية دفن ومراسم عزاء… (ص 173)
وتنتقل عدسة السرد لترسم صورة المنزل الذي استأجره المتوفى:
دخل ليشاهد البؤس مكرساً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى بدءاً من الأساس القديم البالي وانتهاء بخزانة يخالها المرء بأنها ستسقط ]حين[ يلامسها أحد. (ص 173)
يتجلى الميتاقص في أبهى صوره في عنوان القصة (رسالة من ميت 3)؛ فالرسالة بوصفها تقانة سردية، ما هي إلا سرد أحداث ماضية تبين مأساة البطل وتفصلها على نحو مؤثر جداً. يقص بطل القصة تراجيديا حياته، فيؤكد أن الرياح لم تجر كما اشتهت سفن أحلامه؛ ففقر أبيه وموته ونكسة حزيران في عام 1967 والاعتداء الإسرائيلي الغاشم على المقاومة الفلسطينية في لبنان في أثناء دراسته في جامعة بيروت العربية أدوا إلى فصله من الجامعة، فعاد إلى مقر عمله:
قبعت في الأرشيف ]الديوان[ الذي نقلت إليه بعد عودتي من لبنان والهموم ترهق كاهلي. وأنا في حالتي هذه خطر لي أن أفتح أحد الملفات وأتصفحها طلباً للتسلية. (ص 175)
اكتشف بطل القصة أن هناك مبالغ كبيرة من المال مودعة بأسماء أشخاص ماتوا ولا ورثة لهم سوى أقارب يقيمون خارج البلاد، فسولت له نفسه فقام بتزوير شيكات باسمه وباسم أصدقائه في العمل. وتحسنت أوضاعه المالية، وتجرأ على طلب الزواج من فتاة تملكه حبها، فرفضت لأن الشيب غزا مفرقه. وهذا ذكره بمأساته ووحدته. وتصل مأساته إلى ذروتها حين تكتشف الشرطة عملية تزويره، فيودعوه السجن لمدة ستة أعوام خسر خلالها كل ما يملك حتى عمله، مصدر دخله.
ويتابع السارد تسطير رسالته هذه فيقول:
وبعد إطلاق سراحي، قررت أن أتفرغ للمطالعة والغوص في بحر الكتب وقت فراغي بعد عودتي من عملي الجديد كعامل في مطعم علني أؤسس لوضع جديد أفتح من خلاله أفقاً يبقيني حياً بعد موتي … (ص 177)
يستثمر أديبنا داؤد عملية الكتابة بوصفها فعلاً يخلد المرء بعد وفاته، فالكتابة والرسالة هنا، تبرز سبيلاً لإحياء ذكراه بعد أن قضى نحبه. ويختتم رسالته بتأكيد وظيفة الكتابة التوجيهية، فيقول:
وها أنذا أكتب رسالتي هذه وسأحملها نصيحة لمن سيقرأها وتصله كلماتي؛ عش الواقع في كل مراحل حياتك، وعدها فرصة لا تعوض لأن الأحلام خلقت كي لا تتحقق. (ص 177)
وبإيجاز شديد، نفذ المتلقي/القارئ الوصية (أوصل ما بها) والرسالة هنا رسالتان: القصة المسرودة والعظة المتوخاة.

أ.د. الياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار