القصّة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة القّصة القصيرة للأدباء الشباب عام ٢٠٢٣ التي أقامها فرع حماة لاتحاد الكتّاب العرب.

.

الآباء لا يكرهون أبداً
•ياسين أبو خصرين

أمشي على خطى وئيدة كالنسيم الذي ينحدر على الأوراق الملساء بطراوةٍ بالغة، قد انتصف الليل وآبت الطيور إلى وكناتها ولم يبقَ في الشارع إلّاي، شرعتُ برفعِ رأسي للسماء فبدأ المطر يتساقط بنعومةٍ خفيفة لينزلق عن خدّي ثمّ ينسال على عنقي النابضة، رأيتُ قطّة تحاول اللجوء لسيّارة أو عريشة تحتمي بها من هذا الطلّ الخفيف، أتعجّب أهناك أجمل من الاستمطار تحتّ هذا الرذاذ النديّ؟! أتذّكر لهفتي المصطنعة وأسفي المزيّف عندما شخّصني الطبيب بالتصلّب اللويحي، قالها لي والألم يعتصر قلبه بينما حارت الكلمات في حلقه كيف ستقفز على شفتيه وتعلنها لي بملء الفم، قالها والتردّد آخِذٌ بمجامع قلبه واللواعج تعتمل في دخيلته الهشّة، لوى عنقه وأرسل عينيه للأرض مُطرقاً، ثم أعاد التحديق باغتمام عميق وقالها:
-صورة الرنين مع تحليل السائل النخاعي أبدتْ إيجابية واضحة مميّزة لمرض التصلّب اللويحي!
ادّعيتُ الابتئاس والحزن والتكدّر، استمطرتُ دمعة مزوّرة من عيني الكاذبة، فهرع لي وطبطب على كتفي وقال بغمّة:
-يا حبيبي يا كمال، يا قرّة عيني وأنيس وحدتي ومجلى همومي، لكم فرحت عندما رزقني الله بك! لكم استقامت حياتي ببزوغ فجر عينَيك وانبلاج سطوع جبهتك على هذه الدنيا! أتدري يا حبيبي عندما توفّيتْ والدتك وهي تَلِدك، قد بكيتُ كثيراً، بكيت بكاء من لا يخشى جفاف الدمع في عينيه، انطرحتُ أرضاً وبدأتُ الانتحاب كالنائحات الأجيرات اللاتي كانتِ العرب تدفعُ ثمن دموعهنّ، لكن أتدري ما الفرق بيني وبينهن يا حبيبي؟  كنّ يبكين باحتراف ومثابرة فربما انهال من عين إحداهن وابلٌ من الدموع، ولكنّ دموعهن مغشوشة يا كمال، تلك الدموع مأجورة ومدفوعة الثمن وإن رافقها نشيج مصطنع وندب مكذوب، أمّا دموع والدك يا كمال فكانت صادقة حرّى ملتهبة، كنتُ أختنق بعبراتي وأصطلي بحرّ أنفاسي ونشيجي، أتدري لِمَ يا كمال؟ لأنّك جزءٌ منّي يا ولدي! أنا لم أتقاضَ أتعاب مدامعي يا كمال، أتدري لماذا؟ لأن تعبي لم يكن بدموعي الحرّى وأنفاسي المتردّدة، بل كان بدموع أمّكَ التي انهالت زخّاً عندما أعلنتْ لها الدكتورة نجاح الحمل واستقراره بعد طويل الصبر وعناء المحاولات، قالتْ لي عندها -والبسمة تشرق في مبسمها والأمل يتلألئ في عينيها- أنّك ستعيد إدراكنا للحياة، ستعيد تصوّرنا للسعادة، ستمحو اللوحة الرملية التي رسمناها بعقولنا عن جدوى الحياة والعلاقات والناس والتعايش وستعيد هيكلتها من جديد!
أتدري يا كمال؟ ربما لم أكن أتوقّع لفترة ما ولو بسيطة أنّني بطل تلك القصة، أنتَ تعلم، فالبطل هو من يبقى أخيراً رغم تهالك أصحابه، أتدري؟ أنا لا أريد دور البطولة، خذْه وعشْ بدلاً عنّي يا كمال، خذهْ بالله عليك، ألستَ كمالاً؟ أليس (كمال) يشير للاكتمال والدوام والاستمرار؟ خذْه يا حبيبي، خذه ودَعْ أباك يمتْ قريراً، فالحياة بعدك هي موت متعدّد، موت مستمرٌّ لا ينفكّ يتطاير حتى تعاود أحاجيه الاصطفاف من جديد ويعاود الألم الممضّ يتوغّر في صدر أبيك المكلوم! انزاح أبي قليلاً وذهب لمسجّلة الصوت، وضع عليها قرصاً وأدار الصوت وأطفأ الأضواء بغتةً، ثم انحاز شطر إحدى الأدراج واستلّ شمعةً وأشعلها استلبَت الشمعة مجمع عقلي إذ كانتْ قصيرةً والطيّات الشمعية تتبارز على طولها، هذا دليل أنّ أبي يستحضر تلك الجلسات الانفرادية كثيراً. ضوء خافت لشمعة تتوهّج محمومة تصارع اصطفاق الريح مع ألسنتها، ثم فجأةً يبدأ الصوتُ بالتصاعد بتدرّج ليّن، كانت موسيقا نرويجية إيرلندية، اسمها الحديقة السرّية، تبدأ بعتابٍ طريّ وتأمّل بطيء على إيقاع البيانو النسيق، ثمّ تتصاعد على مهلٍ بحزنٍ عميق عندما يندخل سحر التشيللو على نسيج تلك اللوحة الجميلة، ثم يستمر التصاعد عندما تتشنّج أوتار التشيللو وتدخل بحمّى عابرة تعطيكَ التدفّق والحرارة ثم ما تلبث تعاود الانسيال البطيء المُرخي، مزيج من الصعود والهبوط يعتلج في باطنتك ليرسم صوراً ولوحاتٍ تُختلق منها خواطر وخيالات، بعد برهةٍ تنكسر تلك الدارة السحرية باختلاب الكلارينيت لصبوة ذلك اللحن المحموم حيث يدلف لنسيج الصولفيج بلحنٍ ليّن أثيري حادّ يعطيك أملاً واستغراقاً، شروداً وتفكّراً، إيماناً وتصوّفاً، ثمّ ما يلبث التشيللو الملائكي للعودة وتعود دارة الصعود و الهبوط، السعادة والحزن، الوجود والغياب، والشرود والحضور!
تهالك أبي على الكرسي ذي اليدين الخشبيتين، صعّد زفرةً حرّى وأرخى ربطة عنقه وأخذ العرق يتصبّب منه، ثم ندّ عنه صوت مُتعب:

-أتدري يا حبيبي؟ حاولتُ كثيراً أن أنخرط مع الناس، أن أعيش مثلهم، أن أفرح لأفراحهم وأتأسّى لأتراحهم، ولكن أتدري يا كمال؟ لا أخفيك أنني لم أقدرْ على كلّ ذلك، أو بالأحرى لم تحالفني الحظوظ إلى ذلك، طبعاً ستسألني لماذا يا أبي؟ فأنت الطبيب الذي يحظى باحترام الناس وإسبال مودّتهم، وهنا سأقول لك يا بنيّ أن عقل أبيك هو سرّ شقائه؛ نعم عقلي هو السبب، ذلك العقل شديد الإدراك وسريع التحسّس، ربما إن مازحني أحدهم مزحةً مغمورة بالمودّة ويخالطها ذرّة تهكّم ثقْ أنّ عقل أبيك قادرٌ على اصطفاء تلك الذرّة وتضخيمها كما لو أنّها تربو أضعافاً مضاعفة على بحر المودّة، عندها تعتلج في نفسي استجابة حادّة كالنار الشرر المستطيرة، كياني يتزلزل وقلبي يلتهب وخاطري يئنّ وبالي يشتعل، كل جسدي ينحمّ وتتقطّع أنفاسي وتلتهب، حاولتُ كثيراً أن أدفن تلك الاستجابة المفرطة في الإدراك، حاولتُ أن أفتّت مصفاة الاستيعاب وأخمد نيران الإدراك، الناس تقبل مزاح بعضها البعض فأهَمُّ ما يهمّها هو انقضاء مصالحها وتمرير حوائجها، الأمر غير متعلّق فقط بالمزاح أو السخرية يا كمال، فأبوك لم يألف حياة الناس بمعظمها، فمثلاً لم أستطع فهْمَ تفكير الناس وهم يتنازعون على من يملك قرابةً أوفر أو نسباً أجلّ أو سمعةً أصدح، قلْ لي يا كمال ما أهمية أن يكون أبي الفيلسوف فولتير أو القيصر بطرس الأول وأنا لا أملك في جيبي ثمن باقةٍ من البقدونس، ويا ليت الأمر يقفْ هنا فالأدهى والأمرّ ألّا يكون عقلي يمثّل إلّا صندوقاً فارغاً تلتحف فيه الديدان أغطيةً من الغبار وسرابيلَ من الرماد، ما الفائدة أن يكون عمّي المصلح الاجتماعي فلاناً وأنا أسوح عطّالاً شريداً كالإمّعة الصعلوك الذي لا يجيد إلّا ربط حذائه المهترئ وقدح الناس المثابرين، هل سيضيف ذلك لسيرتي الذاتية إلّا الجفاف أو لنقل بتعبير أصلح الرطوبة وربما التعفّن!
ثقْ يا كمال أنّني حاولت فلم أُطِقْ، وجرّبتُ فلم أصبر، حبيبي كمال، أتعلم ما الذي صبّرني على كلّ ذلك النفاق الأكّال والزيف الاجتماعي؟
أتعلم من أوقد في قلبي نير الحياة وشمعة الأمل؟
أتدري من أذكى في عقلي فلسفة الجمال والأخلاق والمثابرة؟
أتدري من جعل الهواء يتردّد في أنفاسي كالنسيم الرقراق الملتفع برذاذ العطر والمخضّب بأثير السعادة؟
أتدري من حرّر قلبي من عقال الاجتماع الموهوم والأخلاق الكاسدة؟
أنت يا حبيبي، أنت يا بصري ودمعتي وحنيني وكبريائي، أتدري؟ ربما أثقلتُ عليك فوق ثقالة المرض الذي ينهض على غلاف قلبك المتعب، لكن كان يجب أن أقول تلك الكلمات لك في يومٍ من الأيام وهأنذا أقولها بلا خجلٍ أو استحياء، نعم صحيح كلّ الأباء يُخفُون عن أبنائهم عقدهم النفسية التي ركَمتْها الحياة في قلوبهم واستزرعتْها في صدورهم، ولكنّي يا بني الآن أنا أتعرّى من كل همومي وعقدي واستياءاتي ولواعجي لأطرحها أمام قدميك صاغرةً حقيرةً تافهةً أمام جَلل مُصابك وفظيع مرضك، نعم يا كمال فكلّ همّ اضطرم في سرّي يقفْ قميئاً أمام كل وخزة ينخزك بها هذا المرض الخبيث، ثقْ أنّ كلّ كرهٍ أضمرته لشخص أذاني واحتلّ رقعةً واسعةً من خاطري ليتهالك أمام كل لهبةٍ من صداع يصيب رأسك أو انشفاع في الرؤية يرتسم لعينيك يا حبيبي، يا كمال يا حبيبي، ثقْ أنّ حياة أبيك المترامية الأطراف وهمومه المشتعلة قيظاً ما هي إلّا أرضٌ يَبَاب وتربةٌ بوار أمام عظيم حياتك وأثرك اللطيف الخفيف النقي، حبيبي كمال سامحني على حياة استغرقتُها في محاولة الائتلاف للناس والاجتماع ونسيتُ أن أحبّك وأدلّلك وأغمرك أحضاناً وقبلاتٍ وهدايا وتحنان، سامحني على كل صرخةٍ زعقتها بوجهك عندما طلبتَ منّي أمراً، فدائماً ما كان سبب صراخي هو أنّني مشغول بالنيل من فلانٍ في عقلي أو اتحرّق من سخرية علّانٍ في سرّي، سامحْني يا كمال، سامح أباك الذي عاش أغلب حياته في عقله لا في عقلك، آذاه الناس في الواقع فلكمهم في مخيلته الجوفاء، صفعه الكذّابون في الحياة فأدماهم في عقله المفكّك، ذلك العقل الذي بات حلبة صراعٍ على أكثر تقدير، أصرع بها جثّة فلان وأكسر فكّ علّان، سامحْني يا كمال، سامح ذلك العقل الذي كان الأجدر له أن ينشغل عن تفاهات الناس ويحبّك ويحنّ إليك، سامحني عندما نعتّك بالأحمق عندما تدنّتْ درجاتك عن درجات زميلك ابن جارنا المتهكّم الأخرق والمتفلسف الحقود، ذلك الجار الكذّاب الذي يلمّع صورة ابنه البليد ويحاول أن يشكّل له بعقولنا طيفاً من ذكاء ومشعلاً من بهاء، أعرف يا حبيبي أنّه اعتلاك بعد سلسلة من الدروس الخصوصية وربما بعد سلسلةٍ من الصفع والتحقير من أبيه المحبّ للتسلطن والاعتلاء كي يحوز درجاتٍ أعلى منك وبذلك يتفوّق على (ابن الدكتور)، تخيّل يا كمال ذلك الجار الأرعن المعتوه الذي لا يعرفُ جدول الضرب يحاول نيل المجد على سلمٍ من سَهَر وتعب أولاده، يحاول ملء فقاعة الفراغ التي تعتريه كالظلّ الذي لا يزايل صاحبه كي يشعر بالقيمة والنمو والاعتزاز على الناس، وتقول لي لماذا لم أستطع محبّة الناس يا كمال!؟! بالله عليك تلك النماذج كيف

ستُحبّ؟ كيف ستمتزج لها المشاعر في قلبك وهي تضمر لك السوء والفشل وتحيك لك المكائد؟
كمال يا حبيبي! أعيد لك مجدّداً أنّني آسف، آسف حقّاً واعلمْ أنّ أسفي هذه المرة مختلفٌ عن كلّ مرةٍ، هذه المرّة سأنسى الناس ولن أستحقر غشّهم أو أستبيح غيبتهم، حسناً سأجعل من اليوم أخلاقي فاضلة وسماتي نبيلة، سأشغل وقتي معك، سنذهب للمسرح العالمي ونركب الخيل الأصيل ونتريّض في الحدائق الغضّة ونبلّل أقدامنا في الأنهر الضحلة الباردة، سنقرأ الجريمة والعقاب لدستويفسكي، أعلم أنّك تحبّ التحليل النفسي كثيراً، حسناً تلك الرواية فيها من ذلك الكثير، ثمّ إن مللنا من الاستغراق التحليلي سنَهبُ أنفسنا الاغتناء بفلسفة الدراما والجمال مع رواية آنا كارنينا لفيلسوف التصوّف والجمال تولستوي الحكيم، ليس ذلك فقط بل سنسمع موسيقا شوبان والمقطوعة أربعين لموتسارت وأداجيو ألبينوني وشتاء فيفالدي وبحيرة البجع لتشايكوفسكي، انظر يا حبيبي كمال، سنطوف العالم، نعم أنا غني، اسمعْ.. معظم الآباء لا يميلون للإفصاح بذلك لأبنائهم مخافةَ أن يستسيغ الشبّان إهدار المال هنا وهناك عندما يعلمون بالثراء الفاحش لذويهم، أمّا أنت يا كمال فأنت شابّ حكيم، حسناً أين كنّا يا حبيبي؟ آه نعم نعم.. أنا لديّ المال الوفير لذلك سنسافر لأجمل البلدان، سنذهب لمتحف اللوفر في باريس ونرى لوحة الموناليزا، تلك السيدة الغامضة بعينيها المسبولتين وخدّيها المكتنزين وأنفها المستدقّ، تجلس لا يهمّها أحد ولو كان الناظر لها ملكاً أو قيصراً أو حفّارَ قبور فالكلّ سواء، بل سنذهب أيضاً لمتحف الهيرميتاج على ضفاف نهر نيفا في بطرسبورغ، تلك المدينة التي تحمل في طيّاتها روايات دستويفسكي وراسكولينكوف والعجوز المرابية، يعتلج في هوائها كآبة الليالي البيضاء والفتاة الغادرة على جسر بطرسبورغ العاتم، سنذهب لغابات الأمازون ونرى الجاكوار المرقّط وأفعى الأناكوندا السامّة ونتبلّل بصبيب الغابات الخضراء المطيرة، سنحبّ ونكره، نرقص ونتشنّج، نبتسم ونعبس، نأكل ونشرب، نقابل شعوباً متقدّمة وقبائل متخلّفة، أفكاراً سخيفة ونماذج غنيّة، سنغني قلوبنا قبل إغناء عقولنا، فالقلب الغنيّ يا ولدي لا شكّ سيغني العقل يوماً، لكنّ العقل الغني قد يبثّ ضِراماً في القلب في بعض الأحايين، والآن سأسألك يا حبيبي هل سامحتَني؟ كمال.. هل سامحتَني؟
كمال حبيبي! أين أنتَ لماذا لا تردّ؟
إنّني لا استطيع رؤيتك فالريح أخذت بالهسيس والشمعة بدأت بالتخامد، أين أنت كمال!

كمال:
تركتُه هناك في عيادته، نعم في عيادته، يسمع ضروب الموسيقا الجنائزية وينتحب على وهج الشمعة الآفلة، انسللتُ متلفّعاً بالسواد الحالك الذي يلفّ جنبات الغرفة، هو يحبّني نعم ولكنّه لن يتغيّر، هو يريد دلالي نعم ولكنّه لن يقدر، هو يعلم الحقيقة نعم لكنه غير قادرٍ على استلالها كالسيف لثقب دناءة تفكيره ووضاعة الواقع الهزلي الذي يرسمه لحياتنا، فليذهب جارنا وابنه للشيطان وما دخلنا بهم!
فليذهب مدير العمل وموظّفوه إلى دائرة الجحيم وما علاقتنا بهم!
كم أضاع وقتاً لمحاولة فهمي ولم يفهمني، فهل سيفهمني الآن عندما اجتاحني المرض وبدأ يدمّر أعصابي ويستبدلها بلويحاتٍ إسفنجية ضامرة جوفاء لا وظيفة لها، فالآن أشعر بالوخز غداً ربما أتشنّج وبعد غدٍ ربّما ألازم الفراش كأنّما الدبابيس تغزّ أنحاء جلدي.. رحماك يا ربّ! ما أتعس الابن الذي ولدتْه أمّه وماتت بمولده، ثمّ ربّاه أبّوه الذي يعيش في عقول الناس لا في عقل ابنه وحياة ابنه، على العموم سأجرّب، سأعود له علّه أنهى محاضرة التأسّف والاستسماح التي يسردها على عقلي المُتخَم، عقلي الذي ملّ كل اعتذاراته المُجترّة، بل ووعوده المهدورة كالعسل الذي اندفع من الجوف كالقيء وذهبت فائدته، بل واستحالت حلاوته في الفم لمرارة لاذعة وحموضة ناخرة!
وصلتُ باب العيادة فاندهشت برائحةٍ حريقٍ نفّاذةٍ تحوم في الأفق، هرعتُ متفحّصاً جنبات العيادة حيث كان الضباب الفحمي الأسود يزداد احتلالاً للهواء حتّى باغتتني نوبة سعالٍ عنيفة، وضعتُ ياقة قميصي على أنفي واستمريّت بالعدو لأصلَ للغرفة الرئيسية حيث يقبع أبي، وبينما أنا على حافة الولوج للغرفة تلك حتى لفحتْني موجة احتراقٍ متفاقمة سامّة، فتشنّجت قصباتي وشعرتُ باصطكاك ركبي، لكن صارعتُ سموم الحريق وضباب الكربون حتّى وصلت إلى داخل الغرفة وبحركةٍ خطّافيّةٍ سريعةٍ شرعتُ النوافذ عن آخرها لاستبين مصدر الحريق، فماهي إلّا ثوانٍ حتى نثرَتِ الريح الشتويّة الغبار السديمي والكربون السامّ من بطن الغرفة، اقتربتُ من مصدر الحريق فما كان إلّا مجموعة من الأوراق المشتعلة، تلك الأوراق هي التي تضخّ هذا الضباب السامّ الهائل، على عجالةٍ أطفأتها وهرعتُ صوب الأريكة التي كان أبي منكفئاً عليها، نظرتُ لأبي كان متداعياً على كرسيه هناك قرب الشمعة المتخامدة، وهجها النحيل انعكس على وجهه الشاحب فبدتْ عيناه الغائرتان وخدّه الضامر، يضع يديه على بطنه ويسند كتفيه إلى وسادة الكرسي، اقتربت منه.. كان ميتاً!

نظرتُ في بقايا الأوراق المشتعلة فاستللتُ نثارة ورقٍ صغيرة مكتوب عليها: (كمال الذي قتل والديه، قتل أمّه عند ولادته، وسيقتل أباه عند امتهانه، مع ذلك لا شكّ أنّ قلب ذويه لن يبرح يحبّه إلى الأبد، فالآباء لا يكرهون أبداً!).

*#هامش قصّة الآباء لا يكرهون أبداً.
ياسين أبو خصرين طالب في كليّة الطّب في السنة الخامسة جامعة حماة

المزيد...
آخر الأخبار