– عادت من عملها مرهقة متعبة، دخلت غرفتها واستلقت على سريرها صامتةً
أخذتها الذاكرة بعيداً بعيداً، رحلت بها إلى سنوات أمضتها مع زوجها كانت أيامها موشومة بما هو جميل وممتع ٌ….
لكنَّ سعادتها لم تدم إلا القليل … رحل عنها…ابتعد تدريجياً بلا سبب وترك لها ثمرة زواجهما طفلين صغيرين.
لقد أحب غيرها وتزوج، تحدثت مع نفسها كثيراً، تساءلت… وفكرت … لكن صمت الجواب.
مذهولاً ، لا يوجد جواب!
قالت في نفسها: أنت وقلبي جرحان عميقان تركتما تعرجات في مسافات الصمت..
كم أتمنى أن يغمرني الزمن بأمطار النسيان لقد جرحتني وكان صوتك حكاية تاريخ أحزاني.
قسوت بكلماتك عليّ سأحملها إلى كهوفي البعيدة حيث تقيم روحي وحتى لا أسُمعها لأحد وتابعت بصمت حديثها لنفسها، نظرت إلى مرآة كانت بجانبها .. تمتمت:
– أنا مازلت في ريعان الصبا، ما زلت جميلة : أنا أحتاج لمن يداعب خصلات شعري لمن يهمس بأذني وشوشات غزل تعودت سماعها، ثم أردفت قائلة:
– هو كان يحدثني أحلى الكلام.. لم أعد أذكر ما كان يحدثني به…
– لقد يبست كلمات الحب على شفتي، وصار الحب رعباً، وصار نزف الذكريات ماضياً فقد معناه وانتهى.
تناولت علبة سجائرها ، وأشعلت واحدة وهي تنظر إلى دائرة ضبابية تمر أمام شفتيها وقالت:
لم يبق لي سوى دخان يرسم دوائر الهموم، ولم يبق لي سوى قلم وموسيقى وأوراق.. أعود وأقول ثانية:
يبست كلمات الحب على شفتي حين لم تحس وتشعر بمعنى نقاء الفلّ فالروح في عالمك وهم وخرافة.
أطفأت سيجارتها وأخرجت صورته من حقيبتها وقالت له:
أنظر إليك وأراك كالصنم الحائر ونسيت أن أيامي معك كانت مياه جداول تتكسر بين الصخور باحثة عن ذرة تراب خصبة تسقيها.
لا أدري كيف مرت تلك السنوات عليّ وأنا بعيدة عنك ومازلت أتساءل:
– لماذا ابتعدت … لماذا هجرت أولادك وبيتك، ولماذا التفت على أغصان عمرك هذه الأفعى وبسمومها أبعدتك عن أولادك وعني…؟؟
نهضت وهي تمسح دموعها، وتناولت دفتر مذاكراتها لتدون فيه رسالة أحبت أن يقرأها يوماً ما.
كتبت له:
أتريد أن تسمع حكايتي..؟
ذات يوم كنت طفلة تحب أن تولد… ويولد معها القمر الفضي نقياً يضيء لها مزرعتها الصغيرة، كنت وحيدة كصدفة مهجورة في البحر وتعودت أن أحب ببراءة الأطفال.
كان كل شيء ملوناً حولي حتى البشر.. حتى الحكايات.. حتى الأحاسيس وكان الزمن يغسلها فيزول بريقها.. وأزداد تمسكاً بلوني المنفرد.
سنوات…وسنوات وأنا أزداد تعلقاً بك وكانت عيناك صلاة عمري الضائع.
قبل أن أعرفك ملأت كؤوس عينيك بكل دفقات حبي بلا خوف ولا تردد… وفجأة وجدتك بلون آخر فلم أصدق.. وواجهتك بالحقيقة فخسرتك، ارتديت ثوبي المعتم الأسود ورفضت أن ألوَّن بالألوان المبهجة عندما طلقتني.
لقد أصبحت كاهنة الصمت والعزلة … والذهول، وتوقف شراعي لأن الرياح ماتت سأعود لمزرعتي الصغيرة فعتمتها لم تعد تخيفني… سأعود لعملي الصحفي فرائحة الحبر وهسيس قلمي على الورق يفرحني وينعشني…
سأغمض عيني الآن، وأنام مرتاحة وأهدابي مبللة بالصفاء..
أغلقت دفتر مذكراتها ، ليخترق صمت غرفتها صوت الهاتف (الجوال ) كان ابنها الذي اتصل.
– أمي أزف إليك بشرى تخرجي من الجامعة، أريدك أن تحضري مع أخي حفل التخرج دارت الدنيا بها فرحاً ونسيت كل ما مرَّ معها من أحزان ومتاعب.
لقد عادت لذاتها، ترسم حياتها كما تشاء، وكما تريد… فالحب أساسه الحرية … والحب تفان مطلق، وذوبان في غمرات رغبات من نحب.
*رامية الملوحي*