روح المكان

مثلما للإنسان روح تتحرك فيه .. كذلك للمكان روح تحيط به وتعطيه الخصوصية والنكهة التي تميزه عن باقي الأمكنة ، وعند الحديث عن المكان تطل منه روحه الشبحيَّة وتبرز شخصيته التاريخية فتحفز النفس والروح معا لتصير فريسة ذكرياتها مع المكان وتنتقل معها إلى حالة مزاجية جديدة فتتذكر كل ما مر بها في هذا المكان في ماضي الزمان..
فالمدينة بإنسانها وجغرافيتها وطبيعتها وترابها وأحيائها ومبانيها وحوانيتها وأسواقها بل وحتى في أصوات الباعة المنبعثة في شوارعها كسيمفونيات كلاسيكية كلها مجتمعة تعكس روح المكان فهو يعبر عن روح الأمة وقد غدا جزءاً من النسيج الروحي للشخص الذي كان يوماً من ساكني المكان, وصارت دلالته الإنسانية والأخلاقية من القيمة عنده مصدراً لأمانه النفسي لأنه يتضمن مخزوناً هائلاً من العلاقة العاطفية والإنسانية والاجتماعية, ولأن المكان كان في يوم من الأيام بيت العائلة الأولى وفوقها ربما كان قد وُلد فيه , و باتت أرضه له الأم الأخرى , ففيه قضى مرحلة الطفولة وهي المرحلة الأبهى في حياة كل إنسان , وفيه تدرَّج وتعلم المشي والنطق والكلام , والإيمان , والحب , والقراءة والكتابة في كتاتيبها ومدارسها وله فيها العديد من صحبة المكتب , و كم ركض ولعب في حاراتها القديمة , فهي الذكريات الجميلة , ومراحل الأحلام الوردية التي تسر النفس والخاطر فيفر إليها للتذكار وليحلق في فسحة روحية في زمن تفتت فيه الروح وتأزمت النفوس فتراه ينبش في خزان الذاكرة ليتذكر المواعيد والأشواق , والجيران , والصحبة والرفاق , إنها الذكريات التي تشكل له حالة ممتدة من تاريخ لايمكن نسيانه , أو أن تمحوه السنون .ونكبات الدهر , وصروف الزمان.
والمرء لايشعر بدفء قلبه إلا إذا عاد إلى مدينته جسداً وروحاً . فإن تعذر جسداً فروحاً. لأنه مهما ابتعد عنها وارتحل يشتاق إليها ويحن لها ويسعى جاهداً ليأتيها ولو بزيارات عابرة فهو يتوق إلى اكتشاف لذة مذاقها ثانية لأنه عاش مبادئها الإنسانية والروحية.
ولكن هيهات فالزمان لايعود إلى الوراء…. يشتاق لأن المكان يعطيه بالتأكيد زخماً روحياً وتواصلاً بشعور قوي يحركه وربما من غير وعي منه، ويقول له : إنك امتداد لأجيال من الرجال والنساء الذين عاشوا في ذلك المكان، وأنت من بينهم نمثل إحدى حلقات هذا الامتداد الإنساني.
هذا العمق في المعاني ينبعث من روح المكان في الحارة ومن المدينة التي عشنا فيها. فا لمدن مثل الناس تُظهر حباً وأشواقا لأبنائها ولمن عاشوا فيها إذ ترسل إيحاءات مبهمة تهفو لها روح الإنسان وتعتريك دون أن تجد لها تفسيرا .
إنها الأم الرؤوم تشتاق لأبنائها لتضمهم لصدرها وتلفهم بالحب والحنان .

محمد مخلص حمشو

المزيد...
آخر الأخبار